للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

هذا عيب كبير فينا دل عليه الحادث الصغير، وما أكثر ما تدل الصغائر!

ركبت الترام مرة، وكان مزدحماً يغص براكبيه، فلا تبصر لون أرضه، ولا تعرف من الازدحام طوله من عرضه، وكان على المقعد إلى جنبي شيخ مسن احسبه قد دخل في السبعين، وكان معه لبن سائل في صحن ضحل لا غطاء له ولا قعر، فكلما اهتز الترام، أو تحرك الناس، طار رشاشة على ثوبي الذي كنت أتجمل به أيام الحرب، ولا أجد وأنا موظف السبيل إلى غيره، فكنت أضم ثيابي إلي، وأحاول أن ابتعد عنه، ليدرك أذاه لي فيدفعه عني، فلا يدرك ولا يبالي، فقلت له: (يا عم، قد آذيتنا. . . ولوثتنا بالحليب. . .) فما كان منه إلا انه صرخ تصريخاً جمع على أهل الترام، وقال: (اتق الله، ما هذا الكفر؟ ما هذا الجحود؟ ألا تعرف قدر النعم؟ إنه حليب طاهر، هل هو نجاسة؟ حرام عليك).

فتركته ودخلت بين الناس، ووقفت مع الواقفين، وقد كادت تتلامس الوجوه، وتتلاقى الأنفاس، وكدت أختنق، وإذا بشاب على آخر طراز. . . في فمه سيكار أسود ضخم كأنه ذنب العضرفوط، يخرج منه دخان كان رائحته ضراط الخنافس، فوقف أمامي، حتى أوشك أن يحرق بناره انفي، فقلت له: (انتبه يا أخي)، فصاح: (وأين الحرية الشخصية؟ وبأي حق تكلمني؟) وأمثال هذا الهذيان. . .

فرأيت في ذلك مثالاً لعيب آخر من عيوبنا، إننا نأخذ المسائل مقلوبة، ونفهمها على أضدادها، فلا الشيخ فقه الدين وعرف الحلال من الحرام، قبل أن يعظ ويفتي، ولا الشاب عرف المد نية، وأدرك أحوال أهلها، قبل أن يهذي ويتفلسف، الدين يحرم إيذاء الناس، والمدنية تمنع التدخين في الترام، ولكننا نأخذ ما لا نعرف، ونخوض فيما لا نعلم، فكان في حياتنا الشيء وضده، اجتمعت فيها المتناقضات، وائتلفت المختلفات، كما يكون في عصور الانتقال كلها. . .

وصعدت الترام مرة عجوز متصابية متبرجة، كأن وجهها خريطة حربية، من كثرة الخطوط المرسومة عليه والألوان، ففوق عينها خطان أسودان مقوسان، وعلى خديها بقعتان حمراوان، وشفتاها كأنهما قد غمستا بالماء المغلي فاحترقتا ثم نزفتا، فاجتمع عليهما الدم متجمداً فظيعاً، فلم تعود شفتين ولكن صارتا والعياذ بالله، آفتين مشوهتين، وأظافر يديها كأظافر ذئبة افترست حملاً، فهي طويلة محمرة مخيفة، فوقفت في غرفة الرجال وهي

<<  <  ج:
ص:  >  >>