في كلمة سابقة بهذا العنوان ذكرت أن الوسيلة الوحيدة لتحقيق مدارسنا الغرض الأسمى من التربية - وهو التربية الخلقية الاجتماعية - هي خلق مجتمع راق في المدرسة يساهم فيه الطالب ويكتسب فيه من محمود الصفات الخلقية ومقتضيات الحياة الاجتماعية ما تخرجه إلى المجتمع عارفاً بمطالبه، مزوداً بالمؤهلات التي تساعده على الاندماج فيه والنجاح في معتركه
وأعود الآن إلى بيان مزايا هذا المجتمع الواجب خلقه في المدرسة، فمزاياه لا تقتصر على اختلاط الطلاب بعضهم ببعض لحميد الأغراض، بل تشمل أيضا اختلاطهم بالمعلمين، وهو أمر لازم للتربية الصحيحة؛ إذ من طبيعة الناشئين الاقتداء بمن اكبر منهم واخبر، ومن طبيعة المواهب الإنسانية العقلية والخلقية ألا تنمو وتسمو إلا بتقليد أولئك الذين ينظر إليهم الناشئ نظرة إكبار، ويحسن فيهم الاعتقاد، وتنزع نفسه إلى التشبه بهم وهذا الاختلاط الجم المزايا بين الطلاب ومعلمهم سائد في معاهد إنجلترا من المدارس الصغيرة إلى الجامعات الكبيرة، وأثره في تربية الناشئة الإنجليزية اعظم من اثر كل ما يلقى في حجرات الدراسة من معلومات؛ فالمعلمون يعاملون طلابهم معاملة الزملاء الصغار أو الأقرباء الناشئين، وبهذه الروح يناقشونهم في أوقات الدراسة، ويشاركونهم ألعابهم وحفلاتهم، ويكن المعلمين لطلابهم العطف، ويكن الطلاب لمعلميهم الاحترام، وتسود معاملة الفريقين البساطة التامة، واعظم بما لذلك من اثر في تربية الرجولة والصراحة والاعتداد بالنفس بين الناشئين.! أما في مدارسنا فالهوة بين المعلمين والطلاب سحيقة، والنفرة شديدة: لا يفهم المعلم من نفسية كل طالب شيئاً كثيراً، ولا يعطف ألا النادر منهم، ولا يعلم الطلاب عن معلمهم غير ما يثرثره عليهم من معلومات لا تنتهي إلا بانتهاء السنة المدرسية، ولا يضمرون له حباً ولا ميلاً، بل يستحكم العداء بين الفريقين أحيانا إذا كان الطلاب ضعفاء في مواد الدراسة، أو كان المدرس شديدا ملتزماً للجد، وقد استحال أن يسود الود الذي هو اجدر أن يسود بين المربي والمتربي، فمن معلمينا من يأبى من التبسط مع طلابه، ومنهم من يود لو فعل فيرده علمه بما يجر إليه ذلك من فساد درسه، إذ يندفع الطلاب وراء الهزل ويسيئون المسلك