هلكت خديجةُ زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم وهلك عمه أبو طالب في عام واحد في السنة العاشرة من النبوة، فعظمت المصيبة فيهما عليه، إذ كان عمه هذا يمنعه من أذى قريش، ويقوم دونه فلا يخلصون إليه بمكروه؛ وكان أبو طالب من قريش كالعقيدة السياسية، هي بطبيعتها قوة نافذة على قوة القبيلة، فمن ثم كان هو وحده المشكلة النفسية المعقدة التي تعمل قريش جاهدة في حلها، وقامت المعركة الإسلامية الأولى بين أرادتهم وأرادته، وهم أمة تحكمهم الكلمةُ الاجتماعية التي تسير عنهم في القبائل وتاريخهم ما يقال في الألسنة من معاني المدح والذم، فيخشون المقالة أكثر مما يخشون الغارة، وقد لا يبالون بالقتلى والجرحى منهم، ولكنهم يبالون بالكلمات المجروحة
فكان من لطيف صنع الله للإسلام، وعجيب تدبيره في حماية نبيه صلى الله عليه وسلم - وضع هذه القوة النفسية في أول تاريخ النبوة، تشتغل بها سخافات قريش، وتكون عملا لفراغهم الروحي، وتثير فيهم الإشكال السياسي الذي يعطل قانونهم الوحشي إلى أن يتم عملُ الأسباب الخفية التي تكسر هذا القانون؛ فأن المصنع الإلهي لا يخرج أعماله التامة العظيمة إلا من أجزاء دقيقة
أما خديجة زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت في هذه المحنة قلباً مع قلبه العظيم، وكانت لنفسه كقول (نعم) للكلمة الصادقة التي يقول لها كل الناس (لا)، وما زالت المرأة الكاملة المحبوبة المحبة هي التي تعطي الرجل ما نقص من معاني الحياة، وتلد له المسرات من عواطفها كما تلد من أحشائها، فالوجودُ يعمل بها عملين عظيمين أحدهما زيادةُ الحياة في الأجسام والآخر إتمام نقصها في المعاني
وبموت أبي طالب وخديجة أُفرد النبي صلى الله عليه وسلم بجسمه وقلبه ليتجرد من الحالة التي يغلب فيها الحس إلى الحالة التي تغلب فيها الإرادة، ثم ليخرج من أيام الاستقرار في أرضه إلى الأيام المتحركة به في هجرته، ثم لينتهي بذلك إلى غاية قوميته الصغيرة المحدودة فيتصل من ذلك بأول عالميته الكبرى
وأراد الله تعالى أن يبدأ هذا الجليل العظيم من أسمى خلال الجلال والعظمة ليكون أولُ