ولم يكن كلامنا في الأدب أو الفنون وإنما كانت المساكن والأحياء هي مدار الحديث. وكان الرجل يناهز الستين ولكنه في نشاط ابن العشرين، وأنا آنس به وأسكن إليه، ويسرني أن أجلس بين يديه وأصغي - أو لعل الأصح أن أقول أنظر - إلى عباب حديثه المتحدر فقد كان يذكرني بالبحر ويروعني مثله بمثل فيضه الزاخر
فقلت له (يا سيدي، العارف لا يعرف. . ولكني أستأذنك في أن أقول لك إنكما جيلان - أنت وبنوك - ومن حقك أن تتبرم بهم وتسخط على نزعتهم في الحياة وتستخف مطالبهم فيها وغاياتهم منها. . أنت حر في ذلك ولكن من حقهم أيضا أن يضجروا منك لأنهم ينزعون غير نزعتك وأن يطلبوا من الحياة غير ما تطلب، لأن وجوهها اختلفت. وأظن أن هذا عدل،
فصاح بي: (عدل؟. كيف تقول؟. عدل أن يخرجوني من بيتي ويحملوني إلى حي أنا فيه غريب لا أشعر إلا بالوحشة؟. ويقصوني عن أحبابي وأصحابي وعشراء الصبى وأخدان العمر كله؟. ما عيب بيتنا بالله؟. إني لست متعنتا. . أنت تعرف بيتنا فهل تعرف فيه عيباً؟.)
قلت (كلا. . وأشهد أن لا عيب فيه. . واسع وصحي وأسباب الراحة فيه موفورة. . نعم لا عيب فيه ولكنى أعترف بأني لو كنت ابنك لما فعلت إلا ما فعل بنوك. . أي لخرجت منه)
فقال (أنت كنت تفعل ذلك؟. حاشا. . لله إنك عاقل.)
قلت:(المسألة ليست مسألة عقل. . وإنما هي مسألة حياة تغيرت وجوهها وزمن اختلفت المطالب فيه)
قال:(إني أجادلهم كل يوم. . الكلام في هذا لا ينتهي بيننا)
قلت (وهذا حسن. . وجدتم على الأقل موضوعاً للكلام لا تخشون أن ينضب معينه)
قال: (اسمع. إني رجل كبير وقد أديت واجبي وربيت أبنائي وهم الآن رجال يعتمدون على أنفسهم ولا يحتاجون إلي. . فرغت من هذا الأمر. . وأحب أن أقضي ما بقي من عمري