كان يتوجه الظن على شوقي رحمه الله فيزعم الزاعم أن شوقي هو يحي شعره، وهو يرفع منه، وهو يشيع حوله قوة الجذب من مغناطيس الثروة والمكانة؛ وإن الرجل ما أوفى على شعراء جميعاً لأنه أفضلهم، بل لأنه أغناهم، ولا من أنه أقواهم قوة، بل لأنه أقواهم حيلة؛ وأن الشاعر لو جاء يومه لبطل السحر والساحر، فترجع العصا وهي عصاً بعد أن انقلبت حية، ويؤول هذا الشعر إلى حقيقته، وتتسم الحقيقة بسمتها؛ كأن شوقي كان يعمل لشعره بقوة السموات والأرض لا بقوة رجل من الناس.
فقد ذهب الرجل إلى ربه، وخلا مكانه، وبطلت كل وسائله، ونام عن شعره نومة الأبدية، وتركه لما فيه يحفظه أو يضيعه إن كان فيه حق من الشعر أو باطل، وأصبح الشاعر هو وماله وجاهه وشعره في حكم الكلمة التي بقولها الزمن، ولم تعد هذه الكلمة في حكمه. فهل أثبته الزمن أو نفاه، وهل سلم له أو كابره، وهل رده في غمار الشعراء أو جعل الشعراء بعده أدلة من أدلته؟
أول ما ظهر لي أن الزمن بعد شوقي أصبح أقوى في الدلالة عليه وأصدق في الشهادة له، كما تكون الظلمة بعد غياب القمر شرحاً طويلاً لمعنى ذلك الضياء، وإن سطعت فيها الكواكب وتوقد منها شيء وتلألأ شيء. فقد دل الزمن على أن ذلك الشأن لم يكن لشاعر كالشعراء، يقال في وصفه إنه مفتن مجيد مبدع؛ ولكنه للذي يقال فيه إنه صوت بلاده وصيحة قومه كانت تحدث الحادثة، أو يتخالج الناس معنى من الهم الذي يعمهم، أو يستطيرهم فرح من أفراح الوطن، أو يزول عظيم من العظماء فيزيد صفحة في التاريخ، أو ينشأ كون صغير من أكوان الحضارة في الشرق كبنك مصر، أو ترتج زلزلة في الحياة العربية أينما ارتجت، فإذا كل ذلك قد وقع في الدنيا بهيئتين إحداهما في ذهن شوقي، فيرسل قصيدته الشرود السائرة داوية مجلجلة، فلا تكاد تظهر في مصر حتى تلتقي حولها الأفكار في العالم العربي كله، فتكون شعراً من أسرى الشعر وأحسنه، ثم تجاوز فإذا هي صلة من أقوى الصلات الذهنية بين أدباء العربية وأوثقها، ثم تجاوزها فإذا هي عاطفة تجمع القلوب على معناها، ثم تسمو فوق هذا كله فإذا هي من هذا كله زعامة مصر على