واليوم يقع مثل ذلك فتتطاير بعض الفقاقيع الشعرية من هنا وثم ملونة منتفخة ماضية على قانون الفقاقيع في الطبيعة من أن لحظة وجودها هي لحظة فنائها، وأن ظهورها يكون لتظهر فقط لا لتنفع.
ولست أماري في إن بيننا شعراء قليلين يجيدون الشعر ولهم فكر وبيان ومذهب وطريقة، ولكن ما منهم أحد إلا وهو يشعر من ذات نفسه أن الحوادث لم تختره كما اختارت شوقي، وأنه في الحياة كالواقف على باب ديوان ينتظر أن يعهد إليه وأن يخرج له التقليد فهو ينتظر وسينتظر.
وهذا عجيب حتى كأنه سحر من سحر الزمن حين تفصل الدنيا بين العبقري الفذ وبين من يشبهونه أو ينافسونه - بضروب خفية من الصرفة والعوائق لا هي كلها من قوة العبقري ولا هي كلها من عجز الآخرين.
وأعجب من ذا إن (شوقي) كان في العالم العربي كأنه عمل تاريخي متميز من أعمال مصر، غير أنه مسمى بأسم رجل؛ وكان على الحقيقة لا على المجاز - كأن فيه شيئاً من هذه الروح التاريخية المتغلبة التي تخلد بأسماء الآثار الفنية وتكسبها العظمة في الوجودين، من محلها ومن نفس الإنسان.
وأعجب من هذا وذلك أني لم أر شعراً عربياً يحسن في وصف الآثار المصرية ما يحسن في وصفها شعر شوقي، حتى لأسأل نفسي: هل تختار بعض الأشياء العظيمة وصفها ومفسر عظمتها، كما تختار المرأة الجميلة عاشقها ومستحلي حسنها؟
وما بان شوقي على غيره إلا بأنه رجل أفرغ في رأسه الذهن الشعري الكبير، فكان في رأسه مصنع عماله الأعصاب، ومادته المعاني، ومهندسه الإلهام؛ والدنيا ترسل إليه وتأخذ منه؛ وعلامة ذلك من كل شاعر عظيم أن تضع دنياه على أسمه شهادتها له. ولهذا ما يكون بعض الشعراء كأن أسمه في وزن اسم مملكة. فإذا قلت شكسبير وإنجلترا، فهما في العظمة النفسية من وزن واحد، وكذلك المتنبي والعالم العربي، وكذلك شوقي ومصر.
قالوا كان الفرزدق ينقح الشعر، وكان جرير يخشب (أي يرسل شعره كما يجيء فلا يتنسوق فيه ولا ينقحه)؛ وكان خشب جرير خيراً من تنقيح الفرزدق. ولم يتنبه أحد إلى