خيل إليَّ في وقت من الأوقات أن توفيق الحكيم قد بلغ مداه وارتقى آفاقه، وأنه منذ الآن سيكرر نفسه، مع شيء من التحوير والتعديل
خيل إليَّ هذا وأنا أقرأ (سليمان الحكيم) فأجد فيه اختلافاً ما في موضوعه وشخصياته عن أهل الكهف، وشهرزاد، وبيجماليون؛ ولكنه يتفق معهما في طريقة تناول الموضوع وفي إدارة الحوار مع تعديل طفيف
ثم كتب (زهرة العمر)، فلاحت بوادر آفاق جديدة، ولكن لها شبهاً في خطرات المصباح الأخضر والبرج العاجي. وإن ظهرت في صورة رسائل لا في هيئة مقالات فالفرق في صميم العمل الفني هنا كذلك طفيف.
ولكن هذا الوهم قد تبدد من نفسي وأنا أقرأ (الرباط المقدس) كتابه الأخير. هنا أفق جديد من آفاق توفيق الحكيم ونغمة جديدة، وعطر جديد. . . إنه عطر النضوج، ونغمة الاكتمال، وأفق الأستاذية. في الموضوع والأداء والطريقة، وسائر ما يقاس به العمل الفني الكبير.
ولقد التمعت من قبل ومضات من هذا الجديد في أعمال توفيق الحكيم؛ ولكنها بالقياس إلى (الرباط المقدس) تبدو بواكير فيها الالتماع والحلاوة، دون النكهة العميقة والنضوج الأخير.
فالخطرات الذهنية - التي اعتدناها من المؤلف - لا تقف هنا عادية، تتخايل بالألاقة والالتماع. إنما هي هنا تسري في مادة حية، وتخطر في إطار من اللحم والدم يمنحها الحرارة والحياة. . . هنا قلب إنساني يضبطه ويدل على حركاته ذهن فنان. وهذه هي اللمحة الجديدة في فن توفيق الحكيم.
لقد كان في (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) شيء من هذا. ولكن النبض الحيوي كان هناك باهتا ساكناً غير ملحوظ في ثنايا التنسيق الفني الدقيق. أما في (الرباط المقدس) فالنبض الحيوي يساوق التنسيق الفني، ويبدو كلاهما كاللحمة والسدى في النسيج