وثالث الأسباب التي دفعت بعشائر المتنبئين وأصحابهم إلى الصبر والصدق في حروب المسلمين الطمع في الملك والرغبة في السيادة. ولقد عرف المتنبئون كيف يأكلون الكتف، فهم إن فاتهم - إحكام الكذب في دعواهم لم يفتهم استمالة أقوامهم بما يطمعونهم فيه من ملك العرب. وهذا أمر قد استقام لكل المتنبئين، فأما مسيلمة فقد ابتدأ أمره بأن كتب للنبي صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب (من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فأني قد أشركت معك وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوم يعتدون) فرد عليه النبي (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. السلام على من أتبع الهدى. أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين) فلما جاءه كتاب الرسول أخفاه، وكتب عنه كتاب زعم أنه وصله بثبوت الشركة بينهما، وأخرج ذلك الكتاب إلى قومه فافتتنوا به. وبهذا - إلى جانب ما قدمناه من أسباب - استطاع عدو الله أن يسخر هذه الآلاف المؤلفة في حرب مبيده. وأما طليحة فقد ذكروا أن مما سجع به قوله (الحمام واليمام، والصرد الصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام). وسواء أصحت هذه المقالة أم لم تصح فإنها تدلنا على كل حال على الفكرة التي كان يبثها طليحة في قومه، وهي أنهم إنما يطلبون الملك، وسينالونه. وسجاح ما كان لها أن تجرر وراءها سادات قومها من تميم، ووجوه أخوالها من تغلب ألا بهذه الأمنية الجذابة:(إنما أنا امرأة من يربوع، فإن كان ملك فهو لكم) إذن فقد كانت العصا السحرية التي أمسك بها هؤلاء المتنبئون هي التلويح بالملك والسيادة لهؤلاء العرب الظامئين إلى السلطان. ولقد ألم الرافعي رحمه الله في كتابه (إعجاز القرآن) ببعض هذه الأسباب التي شرحناها. قال بعد الكلام عب بعض المتنبئين: (على أنه لا اتباع له من غير قومه، ولا يشايعه من قومه ألا طائفة يستنفرون لأمره، ويعطفون عليه جنبات الناس حتى يجمعوا له أخلاطا وضروبا،