للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وقد تبعوه وشمروا في ذلك حمية وعصيبة، وحدبا من الطباع على الطباع، فهم في غنى عن نبوته وقرآنه، وإنما رأيهم الخطار بالأنفس والأموال على ما تنزعهم إليه الطبيعة مقارنة لمن قارب صاحبهم، ومباعدة لمن باعد، وعسى أن يرد عليهم ذلك مغنما، أو ينفلهم من غيرهم، أو يجدي عليهم بالعزة والغلبة، أو يكون لهم سبيل منه إلى التوثب، أن صادفوا غرة، وأصابوا مضطربا إلى غير ذلك مما تزينه المطمعة، ويعزبه الغرور، ويقصد إليه بالسبب الواهي، وبالحادث الضئيل، وبكل طائفة من الرأي وبقية من الوهم، وتستوي فيه الشمال واليمين، وتتقدم فيه الرؤوس والأرجل، مبادرة لا يدري أيهما حامل وأيهما محمول)

يضاف إلى كل ذلك ما ذكره ابن خلدون من أن بعض هؤلاء المتنبئين وأنصارهم كان يطمع في النبوة، فلما لم تجئه عاند قال في فصل بعد الكلام على الكهان: (ثم إن هؤلاء الكهان إذ عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي صلى الله عليه وسلم لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة، ولا يصدهم عن ذلك ويوقعهم في التكذيب إلا قوة المطامع في أنها نبوة لهم فيقعون في العناد، كما وقع لأمية بن أبي الصلت، فإنه كان يطمع أن يتنبأ. وانقطعت تلك الأماني آمنوا أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسدي وسواد بن قارب، وكان لهما الفتوحات الإسلامية الآثار الشاهدة بحسن الإيمان).

قلنا في المقال السابق إن التنبؤ في العصر العباسي كان جنونا، فإن لم يكن فهو الحمق لا شك فيه، وإنما دعانا إلى هذا القول أنا وجدنا جمهرتهم غير جادين في هذا الإدعاء، فلا أنصار ولا اتباع ولا غايات عظيمة يقصدون إليها، كما كان هذا شأن أصحابهم السابقين، ولذلك فإنا لا نلم بأخبارهم مؤرخين، وإنما نلم بشيء منها فيه طرافة يستريح إليها الدارس، ويستمتع بها القارئ، فإن أخبارهم كما يقول صاحب العقد الفريد (حدائق مونقة، ورياض زاهرة، لما فيها من طرفة ونادرة، فكأنها أنوار مزخرفة أو حلل منشرة، دانية القطوف من جاني ثمرتها، قريبة المسافة لمن طلبها، فإذا تأملها الناظر، وأصغى إليها السامع، وجدها ملهى للسمع، ومرتعا للنظر، وسكنا للروح، ولقاحا للعقل، وسميراً في الوحدة، وأنيساً في الوحشة) وإنما كان الأمر كما يقول ابن عبد ربه لأن في أخبارهم الغريب المطرب، والطريف المعجب، بل إن ادعاءهم النبوة نفسه كان مما يضحك الثكلى، ويسري عن المحزون، لأنه اقترن بحمق وسخف. وحسبكم بقوم يفترون على الله الكذب، ويزعمون أنه

<<  <  ج:
ص:  >  >>