للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[القصص]

ثمن الأمومة

للأستاذ محمد سعيد العريان

في الطابق الرابع من الدار القائمة على حدود الصحراء من ضاحية حلوان، كانت تعيش (سنية) وحيدة: لا أم ولا أب، وزوج ولا ولد. لقد فارقها أبوها ولم تزل طفلة بعد، إلى حيث لا يرجع من يمضي؛ وفارقت هي أمها العجوز وأخاها، إلى حيث فرضت عليها (الوظيفة) أن تعيش غريبة منقطعة لتجد ما تعيش به. وما كان المرتب المحدود الذي تمنحها (وزارة المعارف) في كل شهر ليُسعد فتاة في مثل سنها، ولكنها كانت به راضية سعيدة. وقد استطاعت على امتداد الزمن أن تزيد دخلها بضعة جنيهات في كل شهر، مما تحصل عليه من أجرة الإشراف على بعض تلميذاتها في دراستهن المنزلية؛ فتهيأ لها بذلك أن تنظم ميزانيتها الصغيرة تنظيماً يكفل لها أن تستمر على إعانة أمها العجوز بما ترسل إليها في كل شهر، وأن تدّخر لنفسها شيئاً إلى شيء، ارتقاباً ليوم تأمله. . .

منذ بضع سنوات لم تغيّر سنية شيئاً من نظام حياتها ولم تحاول؛ هذا منزلها الذي تسكنه منذ هبطت المدينة، لم يتبدّل شيء منه ولم يتبدّل شيء منها؛ هنا الغرفة التي تأوي إليها إذا جنّ الليل؛ وهنا الثّوى الذي أعدته لاستقبال من يزورها فلم يطرقه زائر قط منذ كان؛ وهنا الشرفة التي ترتفق إليها بذراعها كل مساء ساعة أو ساعات قبل أن تنام، تسرّح النظر في الفضاء الغارق في ضوء القمر، أو تنقل الطّرف بين النوافذ المضيئة قانعة في وحدتها الموحشة من سعادة الاجتماع بأنس النظر!. . . وهناك، على مد البصر، طفل يقفز ويثب؛ هذا هو حيث تراه كل مساء في مجلسها من الشرفة، جالساً بين أبويه أو عابثاً لاهياً يتوثب؛ إن بينها وبينه لسبباً قوياً؛ إنها لتحبه كأنها ولدته، وإنها لتفتقده إذا غاب كأنها بعض أهله، وإنها لتتحدث إليه على البعد كأنه منها بمرأى ومسمع. . . ذلك صديقها الوحيد في بلد لم تأنس فيه إلى صديق؛ أتراه يعرفها ويعرف أين هو من نفسها؟. . . أما هي فتعرفه عرفان الأخ والولد؛ وتعرف تاريخه وماضيه منذ كان وقبل أن يكون. . .

من هذه الشرفة العالية التي يكتنفها الظلام، أبصرت أمّه عروساً في جلوتها، وأبصرت أباه؛ ومن هذه الشرفة نفسها رأته جنيناً في بطن أمّه تخيط له قمصه ولفائفه؛ ومن هذه الشرفة

<<  <  ج:
ص:  >  >>