للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جاءها البشير بمولده والناس نيام؛ ثم أبصرت ذات صباح طفلاً يحبو؛ ورأته من بعدُ غلاماً يقفز ويثب. . . ولكنه هو لم يعرفها بعد. . .

هذه هي حياة سنية: أما نهارها فجهاد ودأب بلا ونى، تغادر بيتها في الصباح الباكر إلى مدرستها، وتغادر مدرستها إلى بيوت تلميذاتها، فإذا جن الليل عادت؛ وأما ليلها فهذه الشرفة وهذا الفضاء وهذا الغلام؛ فإذا أوى الغلام إلى فراشه، واختفى القمر وراء السحاب، وأسدلت الستائر على النوافذ المضيئة - نهضت سنية من مجلسها في الشرفة، فتفتح صندوقها وتحصي ما فيه ثم تأوي إلى أحلامها.

ومضت بضع سنين قبل أن يجتمع في صندوق سنية ما كانت تؤمّل أن يجتمع؛ وأيقنت - بعد صبر طويل - أنها من اليوم الذي كانت ترقب على مقربة. . .

. . . وغربت الشمس ذات مساء ولم تعد سنية إلى دارها؛ ثم عادت بعد العشية، واتخذت مجلسها من الشرفة وسرحت النظر، ولم يكن الطفل ثمة ولكنها لم تفتقده في غيبته؛ وأوت إلى فراشها ولكنها لم تنم حتى انتصف الليل؛ وتراءى لها الطفل في منامها وكان معه أبوه، ثم أصبحت. . .

وراحت تُعد عدة السفر إلى أمها تطلب مشورتها في أمر ذي بال. . .

وابتسمت أمها فرحانة، ثم غشيتها كآبة وهتف بها هاتف؛ ثم عادت فابتسمت ونهضت إلى مصلاها تناجي ربها وتدعوه لابنتها العزيزة أن يتم لها ما تأمل. . .

وتغيرت سنية منذ اليوم وتبدّلت وحشتها أنساً ومسرة، وهجرت الشرفة فلم تكن تغشاها إلا حين تكون على موعد ترقب له الطريق؛ وأنست غرفة الاستقبال بعد وحشة وطرقها الزائر المنتظر منذ سنين، وتعددت زيارته؛ وقالت له سنية ذات مساء وقد جلسا جنباً إلى جنب في الشرفة العالية التي يكتنفها الظلام وأشارت إلى بعيد -: أنظر يا رشاد؛ إنه طفل ظريف!

ونظر (رشاد) حيث أشارت سنية، وقال: نعم، وأظرف منه أن تكوني أمه!

وطأطأت الفتاة رأسها وتضرّجت وجنتاها وسبحت في حلم لذيذ، وتراءى لها غلام يقفز ويثب بين أبيه وأمه، في مثل مجلسهما من هذه الشرفة العالية التي يكتنفها الظلام!

وجلست سنية ورشاد يتبادلان الرأي ذات مساء؛ وقال لها:. . . وإني لأتمنى ألا توافق

<<  <  ج:
ص:  >  >>