التثقيف في اللغة التهذيب. . ويقول العرب ثقف القناة أي شذبها. ومن هذا المعنى وجدت كلمة الثقافة. غير أن العقل أخذ مكان القناة وتدرجت الكلمة في هذه المدارج وأخذت سمتها منذ أزمان غاية في البعد. هذا هو التثقيف في معناه اللغوي. . أما من هو مثقف فهذا ما لم يدره أحد حتى الآن، فقد كثرت التعاريف وتعارضت. وأغلب الظن أن كل واضع لتعريف كان ينظر إلى نفسه حين يضع تعريفه فيجعل شخصه هو المثقف ومن دونه ليسوا جديرين بهذا اللقب. ولا شك أن في مثل هذه الأحكام الذاتية الشخصية جنوحا عن الدقة وابتعادا عن الحق.
وإنني لأعجز أن أضع تعريفا للمثقف لأني أخشى أن أزل بي التعبير. . ولكنني أستطيع أن أتصوره شخصا بعيدا عن التفاهة رفيعا عن الصغار احتك بالتجارب وتعلم منها بعد أن استوعب الكتب وفهمها. وأستطيع أن أتصوره شخصا بعيد الأفق متسع التفكير يقبل ذهنه أن يتفهم ما يعرض عليه، لا يرى في جهله بأمر مسبة وهو يقر بالجهل ويسعى إلى العلم. وأستطيع أن أتصور شخصا قد بعد عن فترة الغرور. . ذلك الغرور الذي لا أعني به الثقة بالنفس فإن الفارق بينهما دقيق. والشخص الواثق بشخصيته إذا غلا بعض الشيء في هذا الوثوق أصبح مغرورا. . والمثقف كما أتصوره من استطاع أن يضع الحد الفاصل بين الغرور والثقة، أو هو ذلك المرء الذي دعا له النبي عليه الصلاة والسلام حين قال:(رحم الله امرؤا عرف قدر نفسه فأراح واستراح) فذلك الشخص الذي يستطيع أن يصل إلى هذه المرحمة من الله عارفا قدر نفسه مريحا مستريحا. . الذي الشخص - إذا وجد - مثقف تهذبت نفسه؛ والنفس لا تهذب إلا إذا هذب العقل.
هذا هو الرجل المثقف كما أتصوره في مظهره الخارجي. . أما كيف يثقف المرء؟ ومتى يصل من الثقافة إلى المكان الذي يقال فيه إن الرجل قد تثقف. . أما هذا فما احسبني مستطيع الوصول إليه على وجه القطع، فالثقافات متعددة ومتشعبة، وقد يكون الشخص عالما بمادة ما كالكيمياء مثلا ثم هو لا يفقه شيئا في الأدب، أو قد يكون أديبا كبيرا وهو لا يعرف عن علم الإحصاء شيئا.