فهل يحسب المرء أن يكون عالما في ناحية من نواحي الحياة الثقافية حتى يكو مثقفا، أم لزام عليه أن يكون ملما بكل فن - في هذا اختلفت الآراء. . فإن من الإنجليز من من يعلم كل شيء لا يجيد شيئا. وصاحب هذا الرأي يرى أن يثقف المرء نفسه في الناحية التي تلتقي بميل طبيعي فيه حتى يصل منها إلى المدى البعيد - وإنني - إذا جاز لي أن أبدي رأيي، أرى أن هذا النهج في الثقافة أمكن لمنتهجه وخاصة في هذا العصر الذي أصبح التخصص فيه هو الأساس العلمي.
أرى ذلك في بدء التكوين على الأقل؛ أما إذا كان الرجل قد بلغ في ناحية ما مبلغ الأساتذة الكبار فإنه لا جناح عليه إن ألم بالفنون الأخرى.
على أن منابع الثقافة تكاد تتحد مهما اختلفت الآراء في سنن الثقافة نفسها، فهناك الثقافة المدرسية وتلك سنتركها إلى الكلام عن المدرسة، وهناك الثقافة التجريبية وهي التي تكونها حادثات الزمن ومجرياته، وهناك الثقافة الحرة وهي أغزر الثقافات تدفقا، فما أحسب رجلا تثقف من المدرسة وحدها، ولا من الزمن وحده، بل لا بد له من تلك الثقافة الحرة التي لا تقيده بمنهج معين، بل هي ميل طبيعي في النفس يغذيه صاحبه بما يقع في يده متصلا بهذا الفن بسبب ما ولا ضابط عليه في الاختيار، إنما هو يقرأ الرائع الشامخ، والهزيل الضئيل، فتنموا إمكانيته قوية في الإنتاج بما اكتسبه من العمل الكبير، قوية في النقد بما أخذ على العمل الصغير. وإننا إذا أمررنا بأذهاننا أسماء الأئمة الكبار من كل فن وعلم وجدنا أن الجانب الأكبر من ثقافتهم قد تكون من تلك الثقافة الحرة.
وقد رأى بعض الكتاب الغربيين أن العقلية الثقافية لا تبلغ أوجها إلا بعد مراحل ثلاث:
المرحلة الأولى. . ونستطيع أن نسميها مرحلة الكسب وهذه المرحلة هي التي تتجمع فيها لدى المرء المعلومات المتناثرة فتتجلى في خلال هذه الفترة الناحية التي تتألق فيها الملكة الكامنة في نفس صاحبها، ويأخذ من نثار هذه المعلومات ناحية معينة يميل إليها ببحثه فتأخذ عقليته المقفلة في التفتح وتندى من بعد جفاف.
أما المرحلة الثانية. . فهي تلك التي ينسق فيها المرء معلوماته ويهذبها، ويقول صاحب هذا الرأي: إن المرء في هذه المرحلة إذا نسق معلوماته تنسيقا صحيحا يكاد يصل إلى الخلق بحيث يدق على الرجل العادي أن يفرق بين منسق وخلق.