أما المرحلة الثالثة. . فهي مرحلة الخلق ومن نتاجها الروائع الخالدات من كل فن وعلم. المفروض أن يكون هذا التقسيم منطقيا على العلوم والفنون، ولكن الواقع من الأمر أنه لا يكاد ينطبق إلا على دقة نادرة.
فإننا إذا ما شبناه أصبح حتما علينا أن نصدق أن كل ملتحق بكلية الحقوق يعرف من القانون ما جعله يميل إلى هذه الناحية، أو أن ملتحقا بكلية الهندسة بحث قبل أن يلتحق بها ودرس علوما عدة حتى اختار الهندسة بالذات. كما يجبرنا أن نفهم أن كل أديب درس قبل دراسته للأدب ضروبا أخرى من الفن كالرسم أو الموسيقى، ثم عزف عن كل هذا ليختار الأدب فنا - يجبرنا هذا التقسيم على هذا الفهم، ولكن الواقع من ناحية أخرى يجبرنا على عدم التصديق ولما كان الواقع دائما هو الغلاب المنتصر فإنه لا يسعنا إلا أن نحني له الهام، فلا نجاري التقسيم في مرحلته الأولى هذه، قائلين له إننا لا نستطيع أن نقرك، فإنه ليس حتما أن يقرأ المرء كل العلوم والفنون حتى يتمكن من اختيار علم أو فن؛ وإنما هي في أغلب الأحايين الصدفة أو البيئة. التقسيم إذن ليس شاملا فيما يختص بالاختيار.
أما فيما يختص بالمرحلة الثانية التي تنص على التنسيق والتقسيم فإنها تقصر هي أيضاً على الأدب مثلا فما رأينا أديبا ينسق معلوماته فيقول إن هذه الأبيات تنفعني في علم البديع، وهاته تفيدني في علم النحو، وهذه الكلمة حسنة أحفظها، وتلك قبيحة أنساها، وهذه بين وبين. إن أديبا ما لو فعل هذا لكان من أعظم جهلاء الأدب. والواقع مرة أخرى أن أحدا لا يفعل هذا، فالتقسيم قاصر، ولا شك أن الفارق بين تنسيق المعلومات وهو ما قصد إليه التقسيم وبين تنسيق العقلية وهو ما لم يقصد إليه التقسيم. . الفارق بين التنسيقين كبير. . فتنسيق المعلومات خطة استنها أحد الفلاسفة الغربيين ليصل بها إلى بعض الحقائق الفلسفية. فليس من الضروري إذن أن تكون هذه الطريقة ناجحة في كل علم، بل إن أغلب الفلاسفة لا يعترف بها في الفلسفة نفسها، أما تنسيق العقلية فهو أمر آخر ليس هنا مجال البحث فيه.
المرحلة الثالثة. . من هذا التقسيم ترتب الخلق على التنسيق أي أن صاحب هذا السؤال يرى أن من نسق معلوماته خلق، ومن لم ينسقها لن يخلق، وهو قول واضح العجب.
ترون أنه من الصعوبة بمكان أن نحدد الثقافة أو نحدد المثقف، وليس عجيبا أن نعجز