ترى لم تحط هذه الطيوف بمضجعي. . . في هذا الليل الوسنان، فتملأ نفسي حنيناً إلى أيام الطفولة اللاهية، ومرابع العيش الرغيد؟. . . ولم ترقص حولي، قافزة من حفافي السرير، رائعة في حنايا الستور. . . فتدفعني إلى إغماض جفني، أستشف من خلل الهدب الرفاف بالدمع، تلك المغاني الحبيبة، التي فارقتها منذ بعيد. . . فأضحت - يا رحمتا لها - خلاءً، لا البشر يضحك في جنباتها، ولا الأم الرؤوم تناغي فيها الوليد. . .!
لقد رأيت الآن. . . ذلك الطفل الذي درج بالأمس على قبلات الأهل، وبسمات الجيران؛ وتمثلته، وقد نبت بين الفضة الباهية والذهب الرّنان. . . ولمحت أمه تنظر إليه ضاحكة جذلى؛ ترى فيه منية النفس ورغيبة الشباب، ثم أراه. . . يرتع فوق الأرائك مع أخيه، في غرفة واسعة، وقد روّق الليل، وانتشر الظلام، وأرنو إليه يرسّ حديثاً في نفسه، كان قد سمعه من جارته الصغيرة تحت شجرة الليمون في النهار. . . ثم يسمع إلى أبيه يهمس في أذن أمه أن (سأودعه دار الشيخ غداً. . .!)، فلا يفهم الطفل عنه، ولا يحاول الفهم، على الرغم من حبه للاستطلاع، ورغبته في الكلام. . . فقد كان له في كرته الصغيرة، وفي أخيه الحبيب، غني عن السؤال، وغني عن الكلام!. . .
ويتهادى الصبح باسماً كغانية خلوب، فينتشر النور وينقشع الظلام. فإذا كان طفل الغداة، نادى الأب ابنه، ليرافقه إلى البستان. وتسرع الأم فتلبسه الرداء الفاخر والحذاء اللامع. لقد غضب آنئذ، وعلم أن الرداء يمزق فوق الغصون الدوالي. . . وأن الحذاء سيبلى في التراب الأحمر الناعم. ولكن الأب يمسك بيد ابنه ويمضي. . . وقد أطرق الوليد يفكر في الشجيرات التي يجعلها أرجوحة له، والفراشات التي سيطاردها في كل مكان. . . والعصافير التي سيقفز ليقبض عليها. . . فتفلت منه. . . والأزاهير التي يحملها إلى جارته الصغيرة إذا رجع إلى الدار مع المساء. ثم يحدث نفسه عن رفقائه المساكين الذين لم ينعموا بما ينعم به من عيش ليّن ولهو كثير؛ ولا ينسى أن يروّر في نفسه كلاماً يتأبه به عليهم إذا رآهم في الزقاق عند العشاة. ولكن الأب يمضي. . . لا يلتفت إلى ثرثرة الطفل، مسرعاً في مشيه، موفضاً في خطاه؛ والطفل يقفز وراءه كعصفور جذلان، ثم يقصد زقاقاً