في كتاب العمدة لابن رشيق:(قال بعض الحذاق: إنه ليس للجودة في الشعر صفة، إنما هو يقع في النفس عند المميز: كالفرند في السيف، والملاحة في الوجه).
هذا قول كله صدق وكله حق، فنحن مهما اجتهدنا في تعريف غيرنا بنواحي الجودة في الشعر الجيد فلن نستطيع أن يأتي بصورة صادقة تامة لما نحسه في نفوسنا من جودة ذلك الشعر.
وهذه حالي مع شعر الشاعر علي محمود طه، فإنني لأقرأه فإذا هو يوافق نفسي، وإذا هو يقع منها موقعاً قلما يكون لغيره من شعر العصر. ولست أدري مبعث ذلك على وجه التحقيق، أهي روعة الشعر أم تجاوب الذوق أم كلاهما معاً.
وهاهو ديوانه الأخير (الشوق العائد) بين عينيّ فيا لها من عوالم حافلة بالتهاويل زاخرة بالصور الحية تبتدعها لطافة شعور الشاعر، وصفاء فكره، ورفيع ذوقه وبراعة فنه؛ ولله هذه الصفحات الرائعات من حياة ذلك القلب الذي لا يقر له قرار، فهو لا يكاد ينسى أمسه بآماله وآلامه حتى يعوده عيد من الشوق جديد: الله لقلوب الشعراء! وهل كانت يوماً إلا هكذا؟ وهل تملك إلا أن تلتفت إلى أمسها رضينا أم لم نرض؟. ولقد ترقرقت في عينيّ دمعة حين قرأت قوله:
فقالت: ما حياتك؟ قلت حلم ... من الأشواق أُثر أن أطيله
ما أروعها حياة! ولكن يا رحمة للنفس الشاعرة إذا هي لم تجد لطيوف أحلامها الأفقَ الرحيب لتنطلق فيه خفيفة الأجنحة، فما تكاد تلك الطيوف تصفق بأجنحتها وقد همت بالتحليق حتى تصدمها قيود وسدود تعترض الأفق من هنا وهما فإذا الأجنحة تتكسر؛ وإذا الطيوف تختنق من الضيق فتتهاوى صريعة مهيضة، وتستيقظ النفس الشاعرة الحالة لتواجه الحقيقة، الحقيقة التي ترمي فتصيب، وتصيب فتقتل. وما هي حياة الشعراء إذا حيل بينهم وبين أحلامهم وأطيافهم؟.
ونظرة في قصيدة (يوم الملتقى) وهي من غرره الاجتماعية تعيد إلى أذهاننا ما تنبأ به