انصرف الطلاب إلى بنية النوم حين سمعوا الساعة الكبيرة تطنّ عشر طنات، وخلت ردهة المكتبة ونشر عليها الصمت أجنحته السود، فلم أكن ألمح في خلاله إلا رنين طنّات الساعة وأصداء أصوات الطلاب الذين كانوا هنا منذ لحظة واحدة يتسامرون ويتحدثون. . . ترن هذه الأصداء في أذني، فإذا أنا أراها بعيني تتراقص بين طيات الصمت الأسود حتى تنحدر إلى أغواره العميقة، ويشمل السكوت الرهيب بنية التدريس (في كلية بيروت الشرعية) ويتمدد في أبهائها وغرفها وممراتها. . .
فجلست أصغي إلى أناشيد الصمت التي كانت تسمع من حولي باستمرار فأجدها تملأ قلبي مرارة وأسى. . .
ثم رفعت رأسي فجأة إلى التقويم فنظرت فيه وجمد بصري عليه. . .؟ أمن الممكن هذا؟ أيحدث هذا كله في هدوء. . . يموت في هذه الليلة عام ويولد عام، يمضي الراحل بذكرياتنا وآلامنا وآمالنا إلى حيث لا يعود أبداً، ويقبل القادم فاتحا ذراعيه ليأخذ قطعة من نفوسنا، وقسما من حياتنا، ولا يعطينا بدلاً منها شيئاً. . . وهل الحياة إلا أعوام فوق أعوام؟ وهل النفوس إلا الذكريات واللذائذ والآلام؟
وجلست بين المأتم والمولد أفكر وأتذكر وأحلم. . . ولقد تعودت أن أجلس هذه الجلسة كلما تصرّم عام، أصفى حالي مع الحياة، أنظر ماذا أخذت، وماذا أعطيت، وأراقب هذه القافلة من السنين التي بدأت مسيرها منذ. . . منذ بدأ الزمان، لست أدري متى بدأ الزمان، والتي تنتهي حيث لا يدري أحد.
تعودت أن أعطي نفسي من فكري ساعة في العام، أفكر فيها في نفسي وفي الوجود. . .
نظرت فلم أجد إلا كتاب التفسير أحضر منه درسي الذي سألقيه غدا، وكتب البلاغة التي أكسر بها دماغي وأدمغة الطلاب في غير طائل. . . فنحيتها كلّها ووجدت ركام (الوظائف) التي يجب علي أن أنظر فيها وأصححها، وأقرأ كل ما تفيض به هذه القرائح الفتية من سخف وهراء، يدعوه أصحابه (إنشاء). . . فبعثرتها في غيظ وحنق. . .