أنا في هذا البلاء منذ عشر سنين، عشر سنين يالها من دهر طويل! كان ربيع حياتي، وزهرة شبابي، أضعته كله في هذا العناء، فماذا استفدت؟ لا شيء إلا أن أحرقت نفسي كالشمعة لأضيء لهؤلاء الفتية طريقهم إلى المجد، هؤلاء الذين أحببتهم وأخلصت لهم الحب، وعشت بهم دهراً ولهم، واعتصرت ماء شبابي لأنضر شبابهم، ثم فرّق الزمان بيني وبينهم، فلم أعرف مكانهم من الشام أو العراق، ولم يعرفوا مكاني لأنهم لم يفكروا في أن يعرفوه. . .
إذن فأنا أحترق كالشمعة! يا للحقيقة المرة المروّعة! يا لشمعة شبابي التي ذوت وخبت وأوشكت أن تنطفئ!
إني أعيش في العدم، أعيش في الماضي بالذكرى، وفي المستقبل بالأمل، مع أن الحاضر وحده هو الموجود، لقد مضى الغد إلى حيث لا رجعة ولن يأتي المستقبل أبدا. . .
أين هو هذا المستقبل؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يصل إليه؟ لقد جلست في مثل هذه الليلة من العام الذي يموت الآن، في شرفة منزلي بالأعظمية (بغداد) أحلم بالمستقبل بهذه الليلة التي كانت هي مستقبلي، أسعى إليها، وأؤمل أن أدركها، فلما أدركتها صارت (حاضرا)، وطفقت أسعى إلى مستقبل آخر. إنني كالثور يسعى ليدرك حزمة الحشيش التي يراها على شبر واحد منه فيهلكه السعي، ولا ينالها أبدا، لأنها معلقة بقرنيه تسعى أمامه!
يومض شعاع الأمل من بين فرج الغد، فنسعى لندركه فلا نجده إلا سرابا. إن الأمل مصباح لا يضيء إلا من بعيد. أفليس من سخافات الفكر الإنساني أن يضع في اللغة كلمة الأمل ولفظة المستقبل؟ أليس وجودهما في المعاجم دليلا على تأخر البشرية وانحطاطها، وأنها لم تدرك بعد حقائق الحياة؟
لقد كنت في (الأعظمية) غبيا جاهلا، لأني كنت مطمئنا متفائلا. كنت كلما ودعت بالخيبة عاما، انتظرت آمالي عند آخر، ولكني صحوت الآن فلا آسف على ماض، ولا أؤمل في مستقبل.
لقد قدر علي ألا أشهد ولادة العام إلا غريبا عن موطني بعيدا عن أهلي تارة في مصر، ومرة بالحجاز، وحينا في العراق. وهاأنذا الآن غريب من جهتين: هذا السد الهائل من الجبال: جبال لبنان بيني وبين أخوتي في دمشق؛ وهذا البحر الواسع بيني وبين أخي في