قلنا إن البلاغة توجه إلى العقل أو إلى القلب أو أليهما معاً تبعاً لما تقتضيه حالات المخاطبين من مقاومة الجهل والرأي والهوى منفردة أو مجتمعة. فإذا كان غرض البليغ نفي جهالة أو توضيح فكرة أو تقرير رأي، جزاه في إصابة غرضه الصحة والوضوح والمناسبة. فإذا أراد التعليم أو الإقناع وكان قوام الموضوع طائفة من الفكر أو الأدلة وجب عليه أن ينسقها ويسلسلها على مقتضى الأصول المقررة في المنهج العلمي الحديث. أما إذا قصد إلى التأثير والإمتاع لا إلى التعليم والإقناع، كان سبيله أن يتأنق في اختيار لفظه، ويتفنن في تحرير أسلوبه، ويستعين على اجتذاب الأذهان واختلاب الآذان بإبداع الملكة والهام الروح وتشويق المخيلة وتزويق الفن
والبلوغ إلى قرارة النفوس أخص صفات البليغ في كل ما يكتب. فلو أن كاتباً وقع على طائفة من الحقائق، أو حصل على مجموعة من الوثائق، ثم حققها ونسقها وأداها في اجمل لفظ وأجود صياغة؛ ولكنه لم يبلغ بها كنه القلوب كان حرياً أن ينعت بما شاء من النعوت إلا البلاغة
والسر في ذلك أن ضروب المعرفة إنما تقوم على الملكات المحصلة، وتعتمد على العقل المجرد، وتثبت بالدليل القاطع. ولكن الإثبات ليس معناه الإقناع، فإن الإقناع لا يكون بغير السيطرة على النفس، والسيطرة على النفس لا تتم بغير البلاغة. هي وحدها التي تعد بالعقل في أدراك الحق، وبالشعور في أدراك الخير، وبالذوق في أدراك الجمال. وهي وحدها التي تنفذ إلى القلب بسلطان غير ملحوظ، وتؤثر في الذهن ببرهان غير ملفوظ، وتذهب في تصوير الواقع وتقرير الحق مذهب الوحي الإلهي الخالد
فالوظيفة الأولى للبلاغة هي الإقناع من طريق التأثير، والإمتاع من طريق التشويق، ولذلك كان اتجاهها إلى تحريك النفس اكثر، وعنايتها بتجويد الأسلوب اشد. وربما جعلوا سر البلاغة في جمال الصياغة
قال أبو هلال: (وليس الشأن في أيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة