قلت لصديق ونحن خارجون من السينما - أو لعلنا كنا داخلين فما أذكر الآن: -
(يا أخي أحسب إن من الخسارة علينا أننا خلقنا في هذا الزمان، ولو تأخر بنا الحظ جيلاً آخر لكان عيشنا خليقاً أن يكون أطيب وأرغد، فإن هذا عصر انتقال لم تستقر فيه الأمور على حد مريح)
فوافق واستطردنا إلى حديث آخر. ولكني ظللت أفكر فيما قلت فبدا لي أني أخطأت، ولا نكران أن زمننا هذا زمن انتقال، ولكن هذا حال كل زمان، فما تلزم أمور الحياة حداً تنتهي إليه ولا تكون قط على حال لا يتغير أو لا يتبدل. وكل عصر عصر انتقال. والتحول هو قانون الحياة فلا وقوف ولا رجوع، لأن هذا وذاك مستحيلان في الحياة. ولو كنا خلقنا في زمن غير هذا - قبله - لكنا أحسسنا ما نحسه الآن من إننا في عصر انتقال وإننا نعاني من جراء ذلك اضطرابا وقلقا وقيوداً كثيرة تثقل علينا ونعتقد أن الأيام ستصدعها عن الناس وتعفيهم منها ولتوهمنا إن الناس سيكونون حينئذ اسعد وارغد عيشاً واكثر حرية واقل شعوراً بالتقلقل والاضطراب والحيرة بين القديم المنشوء الذي يتزلزل والجديد المأمول الذي بدت بشائره. وحضرني وأنا أفكر في مثال قريب، فقد كنا في الجيل الذي مضى نسخط على الحجاب وما يقتضيه من التفريق بين الرجال والنساء، وكانت بشائر السفور قد بدت، ولكن أملنا يومئذ في أدراك عهده والانتفاع به قبل أن تعلو بنا السن وتفتر الحيوية ويفسد علينا الأمر كله - كان يبدو لنا بعيداً. وقد أدركنا زمن السفور بأسرع مما كنا نتصور ووثبنا إليه في أوجز مما كنا نقدر، وقبل أن ترتفع أسناننا وينضب معين الحيوية فينا، غير أنا بعد أن صرنا إلى هذا الحال الجديد الذي كنا نحلم به ونتطلع إليه ونتخيل إن الحياة ستكون به أهنأ وأطيب - لم نرض ولم نقنع. ولسنا الآن في حاضرنا ننظر إلى ما كان بل نحن ننظر إلى تيار الزمن واتجاهه، ونقول انه يتحدر إلى ساحة من الحرية أوسع وارحب. ولا سيما بعد أن عرف الإنسان ضبط النسل. والشجرة - كما لا أحتاج أن أقول - تعف بثمرها، فحيث لا توجد ثمرة لا يخطر للمرء أن هناك شجرة فهي غير موجودة فيما يعلم وإن كانت في الواقع هناك