للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[وحي الهجرة في نفسي]

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

إن التاريخ ليتكلم بلغة أوسع من ألفاظه إذا قرأه من يقرؤه على أنه بعض نواميس الوجود صورت فيها النفس الإنسانية، كيف اعتورت أغراضها، وكيف مدت في نسقها، وكيف تغلغلت في مسالكها، وما تأتي لها فجرت به مجراها، وما دفعها فانحدرت منه إلى مقارها. فهو ليس بكلام تستقبله تقرأ فيه، ولكنه أحوال من الوجود تعترضها فتغير عليك حسك بإلهامها وأحلامها، وتتناولها من ناحية فتتناولك من الأخرى، فإذا الكلمة من ورائها معنى، من ورائه طبيعة، من ورائها سبب وحكمة، وإذا كل حادثة فيها إنسانيتها وإلهيتها معاً، وإذا الوجود في ذهنك كالساعة ترسم لك حد الثانية بخطرتين، وحد الدقيقة من عدد محدود من الثواني، ثم حد الساعة إلى حد اليوم، وإذا البيان في نفسك من كل هذه الحواشي، وإذا التاريخ فيما تقرؤه مفنن في ظاهره وباطنه يفيء عليك من ألفاظه ومعانيه بظلال هي صلتك أنت أيها الحي الموجود بأسرار ما كان موجوداً من قبل.

كذلك قرأت بالأمس تاريخ الهجرة النبوية في كتاب أبي جعفر الطبري لأكتب عنه كلمة في (الرسالة) فلم أكن علم الله - في كتاب ولا في حكاية، بل في عالم انبثق في نفسي مخلوقاً تاماً بأهله وحوادث أهله، وأسرار أهله وحوادثه جميعاً، كما يرى المحب حبيبه، لا يكون الجميل في محل إلا امتلأ مكانه بعاشقه، فهو مكان من النفس والدنيا، لا من الدنيا وحدها، وفيه الحياة كما هي في الوجود بمظهر المادة. وكما هي في الجب بمظهر الروح. وتلك حالة من القراءة بالروح والكتابة بالروح متى أنت سموت إليها رأيت فيها غير المعنى يخرج معنى، ومن لا شيء تخلق أشياء، لأنك منها اتصلت بأسرار نفسك، ومن نفسك اتصلت بأسرارٍ فوقها، فيصبح التاريخ معك فن الوجود الإنساني على الوجه الذي أفضت به الحكمة إلى الحياة لتستمر بالنفس الإنسانية، لا فن علم الناس على الوجه الذي أفضت به الحوادث مما بين الحياة والموت.

نشأ النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة واستنبئ على رأس الأربعين من سنه، وغير ثلاث عشرة سنة يدعوا إلى الله قبل أن يهاجر إلى المدينة فلم يكن في الإسلام أول بدأته إلا رجل وامرأة وغلام: أما الرجل فهو هو (صلى الله عليه وسلم)، وأما المرأة فزوجه خديجة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>