والأمر الثاني من نتائج انتشار المدنية الحديثة بين المسلمين أمر يناقض الأول ويكاد يسير سيراً عكسياً معه، ذلك أن انتشار التعاليم الجديدة للمدنية الحديثة واضطرار الأوربيين لتأليف فرقة من المسلمين يتكلمون لغتهم، ويتعلمون مناهجهم، ويتشربون مبادئهم، أمكنت هذه الطائفة من الاطلاع على المبادئ التي تدعو إلى الديموقراطية، وتبث روح الوطنية، فكان من ذلك أن أشربوا روح الثورة - نظروا إلى أممهم بالعين التي نظرت إلى هذه المبادئ فأيقنوا بحقهم في الحياة، وحقهم في الاستقلال، وحقهم أن يساهموا في بناء صرح المدنية، وأن يشاركوا في تحمل أعباء الإنسانية - وزادهم عقيدة في ذلك ما رأوا من أن أوربا تحكم آسيا وأفريقيا على قاعدة مختصرة موجزة واضحة طبيعية، وهي أنها تتجه في تسيير آلات الحكم إلى منفعتها هي، فحيث اتفقت مصلحة آسيا وأفريقيا مع أوربا نفذت المصلحة المشتركة، وحيث اختلفت مصلحة آسيا وأفريقيا مع مصلحة أوربا، فطبيعي أن تنفذ مصلحة أوربا، وقد ينظر في تقدير المصلحة النظر الضيق القريب لا النظر الواسع البعيد - كان من جراء هذا وذاك وجود الاصطدام وشعور الشرق بالغبن، وقيام الطائفة المتعلمة على النمط الحديث ببث روح الوطنية - وعملت هذه الحركة في النفوس سنين وتكفل الزمن بأن يظهر كل حين وآخر حادثة تفتح عيونهم وتقوى شعورهم، فكان القلق في كل مكان في الشرق، في مصر، في تونس، في الجزائر، في مراكش، في فلسطين، في الشام، في العراق، في الهند، في غيرها من البلدان، قلق اقتصادي وقلق وطني وقلق ديني، هذا القلق أنتج وليداً جديداً هو ما وصفته قبل، ماذا ينتهي إليه هذا القلق؟ ماذا يكون شأن هذا الوليد؟ ما تاريخه المستقبل؟ هذه الأسئلة وأمثالها خارجة عن عنوان مقالنا وهي بعنوان (المسلمون غداً) الصق واليق، وكل ما أعمله الآن وأريد أن أقوله عن هذا الطفل أنه (لن يموت).