صدره وتجارب جربها وأخطأ فيها فأصلح خطأه وهكذا كانت حركاته سلسلة متصلة تسلم حلقة منها إلى حلقة، ونسير في التدرج فيها سيراً طبيعياً، أما في الشرق فجاءته هذه المدنية لا من داخل نفسه بل من خارجها، وفرق كبير بين ما دعت إليه الطبيعة وما دعا إليه التقليد - ولاختلال هذا التوازن مظاهر كثيرة فان نظرت إلى القضاء فقضاء شرعي في الأحوال الشخصية يطبق نظم المدنية الإسلامية وقضاء أهلي يطبق نظم أوربا ممصرة وقضاء مختلط يخالفهما، وفي الحياة الاجتماعية نرى قرى لم يتأثر أهلها بالمدنية الحديثة في قليل من شؤونهم ولا كثير، ومدناً تأثرت إلى حد كبير بها حتى في أدق أمورها، ولعل خير ما يمثل مظاهرنا المختلفة المضطربة اختلاف ملابسنا وتعدد أشكالها مما لا يعرف له نظير في أوربا.
وفي التعليم أنواع تتبع الأنماط الإسلامية في عصورها، وأنماط تتبع المدنية الحديثة في مظاهرها وأشكالها، وهكذا فأن أنت نظرت إلى أية أمة أوربية في كل مظاهر الحياة من لغة وتعليم وملبس ومظهر اجتماعي رأيت فيها وحدة رغم الاختلافات السطحية، وان أنت نظرت إلى حياة المسلمين في كل مرفق من هذه المرافق لم تجد هذه الوحدة ووجدت الخلاف في الصميم، نرى نزعات تتجه نحو تاريخهم ودينهم ومدنيتهم القديمة ونزعات تتجه نحو المدنية الحديثة ولا رابطة تربط هذه النزعات - وترى ناحية من نواحي المدنية الحديثة تطغى وتكثر ولا يماثلها ما يقابلها فيطغى - مثلاً - في الشرق لهو أوربا من خمر ورقص وحياة مترفة وهي كثيرة في أوربا كثرة تفوق بمراحل ما في الشرق، ولكنها في أوربا تتعادل وتتوازن، فلهو كثير يزنه جد كثير، وإجرام يوازنه حزم - وعلى هذا النمط يختل التوازن وتفقد الأمة قوتها الحيوية - ولا يمكن أن تصلح هذه الحال إلا إذا توافر جماعة من خير الأمة على دراسة الموقف الاجتماعي للمسلمين والشرق دراسة عميقة مسلحة بما وصل إليه علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ، ثم يضعون بعد هذه الدراسة الأكاديمية خططاً للسير في هذا الظرف العصيب ظرف الانتقال، يعرفون الداء ويصفون الدواء، يعلمون مدنيتهم القديمة والمدنية الحديثة، ومعايب كل، ومزايا كل، ويعلمون الحالة النفسية لأممهم وما يناسبهم وما لا يناسبهم ويبينون (خطة الانتخاب) يعرفون مناحي اختلال التوازن وأسبابها ويرسمون طريقة (إعادة التوازن).