في اليوم الثامن من نوفمبر عام ١٩٤٩ صدر عدد الرسالة الأسبوعي يحمل في أول كلمة من تعقيباته (قصة الدموع التي شابت). . . وفي الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم نقل إلى التليفون صوت الشاعرة (ن. ط. ع) حزيناً كالعهد به، خافتاً كأنما يأتي من بعيد، قاتماً كأنما تعكس نبراته لون شعور عاش في الظلام: هل يتسع وقتك لأن أقرأ لك هذه القصيدة التي فرغت منها منذ دقائق؟ تفضلي يا ناهد!. . . هل تعدني بنشرها في (الرسالة) يوم أن تتحدث عني بعد الرحيل؟ أعدك يا آنسة!. . . إذن فاستمع إلى ولا تعترض، لأنها شعر غير موزون:
(جاء إلى الحياة والدمع في عينية، ورحل عنها والدمع في عينيه. . . وتلك هي قصته: قصة الدمع الذي شاب والشعر في سواد الليل، والروح الذي اكتهل والعمر في ربيع الأمل، والزهر الذي صوح والعطر في رياض الشباب!
من هو؟ لا أحد يعرفه. . . لقد عاش غريباً في دنياه: همسة تنطلق من فجاج الصمت لتتلاشى في سكون العدم، وومضة تشع من وراء الأبد لتخبو في ظلام الياس، ولحن ينساب من أوتار الزمن ليشجي كل عابر سبيل!
يخيل إلى أنه يكن بشراً من البشر. . . لقد كان روحاً. روحاً شرب من خمرة الأسى المعتقة في دنان الشجن حتى ثمل، وكأن الأيام حين طافت عليه بكئوسها قد ثملت معه فنسيت غيره من الشاربين! وكان طيفاً: طيفاً شفه الحزن حتى لكأن الوجود مأتم كبير، ترملت فيه أحلامه ومنيت بالثكل أمانيه، فكل تعزبة في حساب الشعور، وهم لا يجدي وسلوة لا تحين!
تسألني عنه؟ لقد كان (قارئاً) من قراء الرسالة، حدثني عن نفسه يوما فكتبت إليه، وشكا إلى الحياة فأشفقت عليه، ثم لم نلتق بعد ذلك إلا في عالم الرؤى والطيوف! كل ما بقي منه سطور رأيته من خلالها رأى الفكر، وصورة رأيته من ظلالها رأى العين. . . وما تستطيع يدي بعد اليوم أن تمتد إلى رسائله، وما تستطيع عيني بعد اليوم أن تنظر إلى صورته.