للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

رباه، إنني لا أخشى أن تحرقني ناره إذا ما قرأت، ولكنني أهاب نبش القبور إذا رقدت فيها الذكريات. . . ولا أن يلوعني وهج نوره إذا ما نظرت، ولكنني أفزع من رؤية الشموس إذا احتضرت على فراش الغروب!

ألا ما أعجب القدر حين يفرق بين الناس ويدفع بكل حي إلى طريق. . . بسمة ترف على الشفاه هنا ودمعة تقرح الجفون هناك، وحياة في موكب الصفو تمضي وحياة في موكب الشجو تقيم، وكأس مزاجها الشهد للسكارى وليس فيها للحيارى نصيب، وليل يقصر وليل يطول. . . وندامى. . . ويتامى. . . وفرحة يهتز منها شعور وحرقة تلتهب منها صدور، ويا جرعة الصبر في قلوب الصابرين ما أعمق مرارتك، حين يصور لك الوهم أن في التراب أكواباً من العزاء!

لقد كانت كل رسالة من رسائله تحمل إلى معنى من معاني القبر: في كلماتها كم شهدت مصرع الفكر، وفي زفراتها كم شممت رائحة الموت، وفي أناتها كم سمعت صوت النعاة. كم أشفقت أن يصبح الظن حقيقة. . . وأن أصحو يوما على وقع أقدام المشيعين!

من حمرة الشفق حيث طويت الشمس الغاربة، يصطبغ اليوم وجداني وأنا استعيد ذكرى حياة. . . حياة أشبه بحيرة الغريب دفعت به المقادير إلى دار غير داره، فكل ما فيها خواء يبعث على الشكوى ويغري بالرحيل!. . . ولكم وقفت منه موقف الطبيب من مريض تبخرت قطرات الأمل في شفائه: مبضعي الذي يفتش عن مكامن الداء قلم، ودوائي الذي يأسو جراح الزمن كلمات. وكان هذا هو كل ما أملكه. . . أعالج بالقلم ودماء القلب تنزف، وأسباب الرجاء تخيب، وزورق العمر يمخر العباب والضباب إلى شواطئ الفناء!

رباه، لقد كنت رحيماً به حين أخذته. . . لقد تحملت سنواته السبع والعشرون فوق ما يحمل طوق الأحياء من عبادك)!

وسكت الصوت المتهدج لحظات. . . ثم انطلقت صاحبته تقول: (هذه هي القصيدة التي فرغت منها منذ دقائق، ثم أعدت قراءتها عليك. . . إنها من كلمات أنت، ولكن قلمك قد استمد موضوعها من حياتي: الدموع التي شابت، والزهر الذي صوح، والروح الذي أكتهل، والإنسانية التي لا يعرفها أحد وعاشت في دنياها غريبة، وهذا الوجود الذي يبدو لعينها دائما وكأنه مأتم كبير، وهذه التعزية التي تقدمها إلى في التليفون كلما شكوت إليك

<<  <  ج:
ص:  >  >>