ما الذي هاج في نفسي هذه العشية ذكر بغداد، ونشر أمام عيني ما انطوى من ذكرياتها وما مات من أيامها؟ ما الذي أرجعني إلى تلك الليالي حتى كأني - لفرط ما تشوقت إليها، وأوغلت في أذكارها - أعيش فيها؟ أي سحر فيك يا بغداد جذب قلبي إليك، فلم أنْسَك إذ أنا في بلدي الحبيب، ولم أزل أحنّ إليك وأشتاق؟
بغداد. . . يا بغداد، عليك مني سلام الود والحب والوفاء، على المعظّم على الصُّلَيخ على الكرّادة على الكرخ سلام الفؤاد المشوق الولهان، على ليالينا (بين الرصافة والجسر). ما كان أحلى تلك الليالي! كنت أشكو فيها ألم الغربة وأحن إلى الوطن، فصرت في وطني أحن إلى تلك الغربة ولياليها، وما ظلمني موطني وما أنكرت، وما كنت لأذمّه صادقاً فكيف أذمه بما ليس فيه، ولكنها هي الدَعة، مللتها واجتويتها: إني أشكو ألم الراحة، فأعطوني به راحة الألم، ذلك الألم العبقري الذي يفتح القلوب بآيات الشعر، فإني منذ فقدته لم أعد أحسّ بأنني ذو قلب!
على الرستمية. . . ألا تزال الرستمية جنة من جنان الأرض، حافلة بالعاشقين وبالحور العين، أم طاف بها طائف من هذه الحرب فجفت خمائلها وهجرها قاصدوها؟ على الصالحية. . . بروحي صالحية دمشق وصالحية بغداد. على (قهوة المطار)، على ظبائها على جآذرها ألف سلام.
على الجسر. . . يا جسر بغداد، كم جمعت وفرقت، ماذا رأيت وسمعت، كم وصلت بين قلوب وقطعت، أنت الصلة بين ماض لنا كان أعز من النجم وأسمى، وآت لنا سيكون أسمى من النجم وأعز. يا جسر بغداد، يا مربع الحب والأدب والمجد، يا من كنت سرة الأرض، وكنت ليَ مسرّة القلب، عليك مني ألف سلام.
يا ربوعاً تركت فيها قطعاً من حياتي، وخلقت فيها بقايا من فؤادي، ماذا صنعت بفؤادي وحياتي يا ربوع؟!
ويا دارنا في (الأعظمية) من حلّ فيك بعدنا يا دار؟ وهل صوّح لبُعدنا زهرك أم ضحكت من بعدنا الأزهار؟ وهل حفظت آثارنا أم لقد طمست من بعدنا الآثار؟ لقد كنت أنت