للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مستقرّي ومثواي، وكان إليك مفرّي من دنياي؛ وكنت شاهدة أفراحي كلها وأتراحي، وكنت مستودع أسراري وأخباري، كتمتها عن الناس إلا عنك، فهل كتمت سرّي هذه الجدران؟ هل سترت ما رأت من نقائصي التي أخفيتها عن الأصدقاء والإخوان؟

ما هذه الدنيا يا ناس؟ هذه الدار التي كنت أفر إليها من رحب الحياة، وزحمة المجتمع، فأغلق بابها علي، وأخلو فيها إلى نفسي، فأحسّ أنها جزء مني، وأنها لي وحدي، صارت غريبة عني، تنكرني وتجهلني كأني لست منها وليست مني وصارت لغيري، فإذا ما جئت أطرق بابها، رددت عنها، أو قبلت فيها ضيفاً غريباً لا أرى إلا ما يراه الضيف، ولا ألبث إلا ما يلبث. . . لا يا سكانها؛ ما أنا بالضيف الغريب، إنها كانت داري، إن لي فيها حقاً، لي فيها ذكريات؛ فيها من حياتي، من أنفاسي، من روحي!

ودار العلوم؟ خبروني سألتكم بحق الإخاء عن ظلال أيامي فيها. سقى الله ظلالها صَوْب القلوب! خبروني، ألا رجل كريم، يحسن إلى هذا البعيد النائي، فيمر بالدار عند مسجد الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، فيصعد إلى الغرفة التي تطلّ من هنا على صحن المسجد المنوّر المبارك، ومن هناك على صحن المدرسة المزهر المشرق، فيحيي عني هذه الغرفة، فإني سكنتها عاماً، كان لي عام دنيا ودين، وفيها جددت طباعي وأفكاري وكونت نفسي.

ثم ليجل عني في هذه المدرسة في حدائقها، وفي صحونها، في ممراتها ودهاليزها، ثم ليصعد سطوحها الواسعة التي تمتد حتى تتصل بقبة المسجد، وتشرف على تلك الحديقة العتيقة، وتلك المقبرة المهجورة، وعلى طريق الكاظمية، فإن لي على هذا السطح ذكريات. . . وإنني إن أنس لا أنس يوم العيد، وقد خلت المدرسة من ساكنيها، فلم يبق فيها غيري، فأوغلت في هذه السطوح، وصعدت حتى انتهيت إلى أصل القبة، ونظرت فإذا أنا على بحر من النخيل، تهتز قممه من تحتي كأنها الأمواج في اللجة الساكنة، وتظهر في فُرَج النخيل طرق الفلاحين، وقد خرجوا مع أطفالهم وأولادهم بثياب لها مثل لون الزهر، ثم تختفي خلال الأشجار، كشاعر سادر أو محب متغزل، ذهب يناجي ذكريات الوصال، ودجلة عند منعطف الصليخ تلوح بعظمتها وجلالها، كأنها سماء من نور ركبت في الأرض؛ وبغداد، بلد الأساطير والأحلام؛ يبدو طيفها على حاشية الأفق البعيدة بقبابها ومآذنها، كأنه (هو أيضاً) أسطورة ساحرة، يقصها الأفق المشرق على الدنيا، وإلى اليمين

<<  <  ج:
ص:  >  >>