للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

قباب الذهب من الكاظمية، والقبة الخضراء التي ثوى تحتها رمس مُلك شابّ، وشباب مليك، حين ثوى غازي بن فيصل بن الحسين بن عليّ!

لقد لبثت مكاني حتى شملت الظلمة السكون، وضأت المصابيح في شبابيك المنازل فنظرت. . . إليها، أنا الغريب المنفرد، الذي يمضي عيده وحيداً على سطح المسجد، لا رفيق له إلا ذكريات سعادة ولت تؤلمه وتحزّ في قلبه ذكراها، وحبّ مات وليداً، وفكرت في أمري لو أصابني مرض فلبثت هنا شهراً، فمن ذا يصل إلى؟ من يسأل عني؟ وأي فؤاد يخفق من أجلي بعد أن سكت ذلك الفؤاد الذي كان خفاقاً بحبي، فؤاد أمي، إلى الأبد؟ فنظرت إليها فغبطت أهلها إذ يغلقون أبوابهم على الشمل الجميع، والأهل الحضور، والأنس والسعادة.

ونزلت في طريق الحديقة العتيقة، وإذا أنا أتعثر بحجز فنظرت إليه على شعاع ينحدر إليه من مصباح الشارع، فإذا هو قبر متخلف من المقبرة التي كانت هناك في غابر الأزمان، فامتلأت نفسي بصورة الموت، ولم أعد ألمس في هذه الغصون المخضرة إلا الربيع الماضي الذي مات، ولا أرى من الناس إلا قلوباً ميتة دفنت في صدور أصحابها؛ ولا أجد تراب الأرض إلا ناساً كانوا مثلنا وماتوا. . . فأكلت هذه الأشجار أجسامهم، وشربت دماءهم، فمنه كان زهرها الذي نشم عطره، وغصنها الذي نأكل ثمره. . . ولم أر الدنيا إلا موتاً في موت.

وأممت غرفتي وأنا غارق في بحر من الأفكار السود، فسمعت العٍشاء يرنّ في صفا الليل قوياً عذباً يومض ضياؤه في طيات الظلام، إذ يحمل اسم الله منيراً مشرقاً، فقمت إلى الصلاة، فلما قضيت وخرج الناس، رأيت المؤذن ينادي على عادته بذلك الصوت الممدود: الفاتحة! ثم يغلق المسجد وينصرف، وأبقى وحدي، ليس في المسجد ولا في المدرسة غيري، وبينهما باب من داخل، فأعود إلى غرفتي. . .

وما يكاد يكتهل الليل، حتى سمعت الصوت في المسجد كرة أخرى، ولكنه خرج هذه المرة ضعيفاً وانياً، في نغم حزين، من لحن الصبا، فنظرت من شباكي، فإذا في أرض المسجد الذي اشتمل عليه الظلام ثلاثة مصابيح بترولية خافتة النور، تكشف عن نفر من الناس، ولا يبدو منهم إلا أرجلهم وظلال لهم ممتدة فكأنهم الجنّ، أو كأنه فلم مخيف من أفلام ألف

<<  <  ج:
ص:  >  >>