للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ليلة. . . ثم سمعت تكبيرات الجنازة، فنزلت فرأيتهم يصلون على ميت في نعش.

فسألت: من هذا؟ قالوا: مؤذن المسجد!

فانصرفت لأدوّن في دفتري ما عرض لي ذلك اليوم من صور وخواطر، ثم أضعت الدفتر ونسيت الخواطر والصور. . . وأن في الدنيا موتاً. . .

كذلك أمضيت يوم العيد في دار العلوم، وإني على هذا أشتاقها وأشتهي أن ترجع لي أيامي التي مرت فيها. فيا رحمة الله على أيامي في دار العلوم وعلى من بقي من أهلها السلام!

وإن أنس لا أنس (ليلة البلاط)، يا ليت ليلة البلاط تعود! لقد رجعت أنا وأنور العشية من الأعظمية إلى بغداد، فتركنا السيارات وجفونا الطريق الأعظم، وسلكنا محجّة على رصيف دجلة فسرنا فيها، وكانت تنكشف لنا تارة فنسلكها، وتعتل (طريقها. . .) تارات، فتتيه بين النخيل، وكان النهر أبداً عن أيماننا، يبدو حيناً بصفحته البيضاء المشرقة التي تشبه وعد الوصال، يشرق للمحبّ في ليل الهجران، والأمل البسام يلوح لليائس في غمرة القنوط، ثم يحجبه عنا النخيل ويستره الظلام، كما يخلف المحبوب بدلاله الوعد، وتمحو الحياة بواقعها الأحلام، وتطمس صور الأماني. وكان أنور يحدثني حديث ماضيه فيثير في نفسي عالماً من الذكر الأليمة، كلما نزلت به في أعماق قلبي، ودفنته في هوة النسيان، وحسبته مات. انبعث فجأة، كأنما ولد الساعة، عالم فيه صور أبي وأمي وآمالي وحبي، واستغرقنا في خواطرنا، وغبنا عن حاضرنا، فما نبهنا إلا جندي بحربته المسددة إلى بطوننا وبندقيته الموجهة إلينا، وصاح بنا؛ أن ارفعا أيديكما؛ ففعلنا.

قال: ما أدخلكما حمى (بلاط الملك)، وفي ما أنذركما فلا تقفان؟ لقد هممت أن أرميكما بالنار! وكانت تلم هي الأوامر، ما بعد الإنذار إلا النار، فقلنا: نحن أدبيان، أرأيت أدبياً نفع معه إنذار؛ أو أفاد معه تخويف، ثم إننا برمنا بالحياة لا نرى فيها إلا ماضياً لا سبيل إلى إرجاعه، وأملاً لا وصول إليه، ولو أنت رميتنا لمننت علينا بميتة سهلة، نرجو من بعدها ثواب الشهداء، وإن الموت عسكري درجات، وألوان بعضها أطيب من بعض، وما نظنك سمعت بدعاء الأعرابي الذي سأل الله ميتة كميتة أبي خارجة، لأن هذه الجفوة منك دلتنا على أنك لا تقرأ كتب الأدب. أتحب أن تعرف كيف مات أبو خارجة حتى صار موته أمنيّة؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>