. . . وأخيرا مات زكي مبارك. . . مات بعد حياة طويلة بعض الطول ولكنها عريضة كل العرض، حياة تتلخص في كلمة واحدة جامعة هي (الصراع). . . كان يصارع في معترك العيش، وكان يصارع في ميدان الأدب، وقد ظل يصارع حتى نال منه الجهد في السنوات الأخيرة من حياته الحافلة فأدمته أشواك كان يبدي لها الجلد، فيضمد جراحه ويحاول أن يمضي في كفاحه، ولكن كان يغلبه الترنح الذي أسلمه إلى التفكك. وكان الناس ينظرون إليه في هذه الحقبة الأخيرة على خلاف في الرأي والمزاج، كان بعضهم يأسف لانتهائه قبل وفاته، وكان قراؤه يلقفون ما يكتب على علاته ويتناولون ثمرات قلمه غير عابئين بما عليها من غبار وما يختلط بها من حشف. وكان أشد ما يجذب القراء إليه ما ظل يشعشع كتابته من روح نابض وظل خفيف.
كان زكي مبارك يمثل في صراعه الفلاح المصري أتم تمثيل، كان فلاحا خارج القرية، شق بقلمه طريقه إلى الجامعة المصرية وإلى السربون وإلى الصدارة في عالم الأدب العربي الحديث، كما يشق الفلاح بفأسه الأرض لاستنباط رزقه. وكان زكي مبارك يحرث حقله في الأدب ليقيم خطوطه، والويل لمن يعترض طريقه، فإذا استوى زرعه وآتى أكله تولى حراسته ووقف بالمرصاد لمن يقترب منه. ولم يفته طبع الفلاح في الجور على حدود جاره وقتاله إذا استدعى الأمر، ويتجلى هذا في صياله مع الأدباء، ذلك الصيال الذي كان يحمل فيه القلم كما يحمل الفلاح (النبوت).
نشأ زكي مبارك في الأزهر، ولكنه لم يكن كسائر الأزهريين , فلم يكن من المقبلين على (علم) الأزهر العاكفين على طرائقه المأثورة، بل كان من الفئة القليلة التي خرجت من بين تلك الجدران تتلمس الأدب هنا وهناك، وجده أولا في الأزهر على يد أستاذه وأستاذ غيره من تلك الفئة القليلة الشيخ سيد المرصفي الذي كان يقرأ لهم كتب الأدب القديمة ويدني كنوزها من قرائحهم وأذواقهم المتطلعة.
ولم يكن زكي مبارك في الأزهر بالطالب الخامل، فإن فاته الظهور في الدراسة الأزهرية