من الطبيعي وقد تولى أخي طه الوزارة لصاحب الجلالة الفاروق أن تعروني هذه النشوة التي أنعم بها منذ أيام ولا أستطيع أم أعزوها إلى مصدر واحد معين.
قد يكون مصدرها ذلك الزهو الذي يدرك الأخ حين يرى أخاه قد بلغ من مناصب الدولة ما لا غاية بعده. وقد يكون مصدرها تلك الغبطة التي تعتري الأديب حين يرى أديباً نال بقلمه من السلطان والجاه ما لا مطمح وراءه. وقد يكون مصدرها ذلك الرضا الذي يغمر المواطن حين يرى رجلا من رجال الرأي والعزم يتقلد وزارة من أضخم الوزارات أثرها في المجتمع كأثر الأم في الأسرة: تهيئ الطفل بالتربية للعلم، وتجهز الشاب بالعلم للعمل، وتوجه الرجل بالعمل إلى الحياة، ولكنها على الرغم من خطرها العظيم وتبعاتها الجسام لا تزال معوَّقة عن الغاية بثقل الروتين وتشتت الهوى وانقسام الرأي؛ فلابد لها من رجل يدفعها دفعا إلى الأمام يبتر الذبول ونبذ الفضول وتقصير المطول وتبسيط المركب. وقد يكون مصدر هذه النشوة أولئك جميعاً، ولذلك صعب تحديده وأعضل وصفه.
ليس بدعا أن يتقلد الوزارة كاتب لكتابته أو شاعر لشعره، فقديما تقلدها
أمثال أبن الزيات وابن العميد في الشرق، وأمثال ابن زيدون وابن
الخطيب في الغرب. ولكن أولئك تقلدوها والشأن شأن البلاغة والأمر
أمر القلم، أما معالي الدكتور طه فقد تولاها والشأن شأن العصب،
والأمر أمر الذهب. فاختياره للوزارة إنما يرجع إلى مزايا فيه فرضته
فرضا على الحكم. وأنا أعلم الناس بهذه المزايا؛ رصدتها وهي تبزغ
في صدر الأفق ومازلت أرقبها وهي تسطع في كيد المساء. هي
مجموعة من المواهب والملكات أبرزْها براعة الذهن ولطافة الحس
وسرعة الخاطرة وقوة الذاكرة وخصوبة القريحة ونصاعة الأسلوب
وذلاقة اللسان وطواعية اللغة واتساع المعرفة. ولكن هذه الصفات على
قوتها وندرتها ما كانت لتغني هذا الغناء لولا سحر شخصيته وهي سر