كان ذلك في (الزمان الطيِّب)، في مزدهر (الشباب الرِّيق). فررت من مصر في شهر يونية لسنة ١٩٣٤ والحرّ يفتك بالقرائح، أقصد إلى ألمانيا، ومنها إلى بلدان الشمال. وبعد إقامة قصيرة بأسطونية صعدت إلى هلسنكي عاصمة فنلندة، ومن هناك أخذت أتنقل في نواحي الشمال بين البحيرات والغابات حتى (بتسامو) عند بحر الشمال الجامد.
ولن أحدثك هنا كيف هزّتني تلك الطبيعة الغريبة، فلي في ذلك كلام يطول. وإنما أريد أن أروي لك قصة أظنها لطيفة، فأنقلك معي تخيُّلاً إلى بلد هو حديث اليوم في كل مكان، ردَّ الله عنه كيد الظالم العاتي!.
في الطريق الخارج من هلسنكي إلى الشمال عدد من الفنادق ينزل فيها السياح يوماً أو أكثر من يوم. ونزلت مع غيري في فندق نطلب العشاء والنوم؛ فجعلت أرقب موعد الطعام وأنا أتصفح الملحمة الفنلندية الشعبية (كاليفالا في ترجمة فرنسية. وبينا عيناي في الكتاب إذا فتاة تذهب وتجيء وفي يديها أطباق وأكواب فتنضدها على مائدة مبسوطة. وكانت كلما دنت مني تتمهل في لطف وترسل إلى الكتاب نظرة أو نظرتين؛ ولما فرغت من عملها أتتني فقالت: عفواً! أتقرأ (الكاليفالا)؟ قلت: نعم، إني أُحبُّ أن أطَّلع على هذه الملحمة الخارجة من غاباتكم وبحيراتكم وهضبتكم. قالت: أتعلم قصتها؟ قلتُ: أعلم أن (إلياس لونروت) ? جمعها ونشرها. قالت: هل تحب أن أعلمك القصة كلها، فهذه الشمس لم تمل بعدُ؟ قلت: بالله اجلسي وخبريني.
فروت لي الفتاة كيف خرج (لونروت) إلى فيافي منطقة (كاريليه) فمكث فيها زمناً يدوِّن أغاني المنشدين حتى استقامت له عناصر الملحمة فربط بعضها ببعض وفضل رواية على رواية وأسقط الضعيف والمُعاد والتافه. إلا أنه أقام الملحمة ونظر فيها وسوّاها كأنه أحد أولئك المنشدين لاتصاله بهم واستقائه منهم. ثم أخذت الفتاة تحلل لي خصائص (الكاليفالا)، وجعلت تصف وتبين وتستطرد وتعارض في منطق عجيب ودراية نادرة، حتى إنها ذهبت في الموازنة بين طائفة من أغاني الملحمة وأسطورة أرفيوس الإغريقية. فما كادت تتم حديثها حتى سألتها: من أين لك كل هذا العلم؟ قالت: إني دكتورة في الآداب من جامعة