هلسنكي، وإنما أجيء هنا في الصيف أطلب الراحة فأخدم في الفندق فأدفع بذلك ثمن ما أطلبه وعلى هذه الحال كثير من زميلاتي.
وهنا كان موعد العشاء فجلست إلى المائدة وما كانت الفتاة تأتيني لنقضي لي حاجة إلا نهضت أمنعها فتقول: لِمَ تمنعني من أداء الواجب؟ أنا هنا لأخدمك. فأقول: لا أدع دكتورة في الآداب تخدمني، فتضحك من حيائي.
قد كنت نويت في ذلك اليوم أن أبيت الساعة التاسعة فلم أغمض عيني قبل الواحدة. كرّت الساعات وأنا يقظ أستمع إلى أحاديث الفتاة؛ فوقفتني على تاريخ الثقافة الفنلندية وهو قصير؛ ولم تترك باباً إلا طرقته: موسيقى وتصوير ونحت وأدب وفلسفة. وكنت أجاذبها الحديث كلما أجرته في جانب لا أجهله. من ذلك أني شرحت لها كيف تباعد (وِسْتِرْمَرْك) العالم الاجتماعي الفنلندي عن الواقع عند كلامه على (المهر) عند العرب في كتابه: (نشأة المعاني الأخلاقية وتحولها) إذ يرى أن المهر إنما هو تعويض للأب مما بذله في سبيل تنشئة ابنته.
حدثتني الفتاة عن استواء الثقافة الفنلندية القومية بفضل الموسيقى والمصور والمهندس والقصّاص ? ?. وهنا وقفتني على دقائق الطبيعة الفنلندية، فتذاكرنا قصة (سالانبا): (البؤس القدسي) وراجعنا ما فيها من بساطة جليلة وقوة مطمئنة وبصيرة وقادة.
ولما فرغت من حديثها قلت: أحب أن أخبرك بشيء لعلك أن تجهليه. قالت: أيتصل بأمر وطني؟ قلت: نعم. قالت: أي شيء يكون؟ قلت: إن أول كتاب بُسطت فيه جغرافية فنلندة إنما كتب باللغة العربية وصاحبه الشريف الإدريسي واسمه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)؛ وقد نشره من أربع سنين مستشرق من عندكم اسمه (تلجرين توليو). قالت: وما أدرى العرب بنا؟ قلت: سمعت رفيقة لك تدعوك سلمى. قالت: هذا اسمي. قلت: هو اسم عربي ولديكم غيره. إن في نسائكم من تسمى سليمى وعدلة وسوسانة، وفي رجالكم من اسمه: ألي وأُمَر وسالم. قالت: هذا حق! ذلك زمان اتصال من طريق التجارة. وهذا زمان اتصال من طريق الثقافة. مساء الخير! وانصرفت. وإذا الفتاة تجعل على الحاكي أسطوانة للموسيقى (سيبيليوس) اسمها: (فنلندا) أصبت فيها وأنا أعرج في السلَّم كآبة تلك الفيافي المترامية وبطء تلك الثلوج المنسابة في بحر يريد أن يجمد.