للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الزهاوي في أوائل أيامه وأواخرها]

للسيد صلاح الدين عبد اللطيف الناهي

كنت في السابعة أو الثامنة من عمري يوم كان يستلفت نظري شيخ هزيل نحيف، مرسل الشعر على الأكتاف، يمتطي صهوة حمار حساوي أبيض ويمشي في ركابه خادم لا يتغير، وكانت سيماء الشيخ ومطيته تدلان على أنه من أعيان بغداد فقد كان الحمار مطية لا تزري براكبها قبل أن تديل دولة (الميكانيك) من دولة الحيوان

ومرت فترة من الزمن فهجر الشيخ حماره واتخذ له (عربانة) تقطع به عرض الشارع العام (شارع الرشيد) وهو يطل منها على الناس أو يراقب الطير حائماً فوق مآذن بغداد الشامخة وقبابها الزرق، أو يحرك شفتيه بشعر

وسألت ذات يوم: من يكون هذا الشيخ وما له يهدل خصائل شعره شأن أحبار اليهود؟ فقيل لي إنه فيلسوف. فلم أفهم ما يريدون ولكن كتمتها في نفسي كمن اقتنع بالجواب

ثم قل اهتمامي به لكثرة ما اعتدت رؤيته بعد ذلك، ولم أكن أقدر أن اعتنائي به سيزداد يوماً من الأيام. ولكن العمر تقدم بي قليلاً فعرفت قدر الشيخ الفيلسوف ورضت نفسي على قراءة ما وقع في يدي من آثاره فبدا لي من أمره ما كنت أجهل

وكان الناس يومئذ فريقان فريق يدعو له ويكبر شأنه، وفريق ينكر أمره ويتبرم به ويرميه بالزندقة والإلحاد. وكان هو محور هذا التطاحن العنيف بين هذين الفريقين. وأنك لتلمس في شعره هذا التطاحن إذا قرأته وتلمس تبرمه بجمود الجمهور وجهالة الجمهور، ولكنه لم ييأس ولم يتمثل بقول القائل:

غزلت لهم غزلاً رفيعاً فلم أجد ... لغزلي نساجاً فكسرت مغزلي

بل التزم دائماً سبيل الجهر بآرائه والدعوة لها وأنك لتعجب من بسالة هذا الشيخ المتهدم يوم كان يدعو إلى التحرر والى التجدد ويجاهر برأيه في المرأة:

يرفع الشعب فريقا ... ن إناث وذكور

وهل الطائر إلا ... بجناحيه يطير

ليس يأتي شعب جلائل ما لم ... تتقدم إناثه والذكور

مزقي يا ابنة العراق الحجابا ... واسفري فالحياة تبغي انقلابا

<<  <  ج:
ص:  >  >>