للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[البريد الأدبي]

طه الراوي:

كنت منذ ساعتين من احتفال للجامعة العربية فلقيت صاحب الفخامة السيد جميل المدفعي فوقفت معه أحدثه، ورأيت أن نتحدث عن العراق. فبدأت بأحب الذكريات إلى نفسي، وأقربها إلى قلبي. فقلت: كيف السيد طه الراوي؟ فأجاب بصوت لا أكاد أسمعه: (لا أقدر على أن أخبرك خبره) وأشار إشارة لم أتبينها. فحسبت أنه يعني ما عرفت من قبل من ضعف بصر الأستاذ الراوي. فقلت: قد لقيته في القدس منذ ثلاث سنوات وفي دمشق منذ سنتين، وكان يشكو ضعف بصره. ولكن كيف هو؟

فقال السيد جميل والأسى يملك عليه صوته: قد مات. وسكتّ وسكت.

وا أسفا! وا حسرتا على الصديق الحميم، السيد النبيل، العالم الجليل، الأديب المتبحر. وا حسرتا للخلق الكريم، والنفس الزكية، المحبَّبة إلى كل من عرفها، والقريبة إلى كل من سمع عنها.

والله ما ذكر في مجلس من معارفه إلا اجتمعت القلوب على حبه، والألسن على مدحه، وما ذكرته عند من يعرفه في مصر والشام بل العراق إلا كان الجواب ثناء عليه، وإعجاباً بعلمه وأدبه، وإكباراً لخلقه.

عرفت الأستاذ الكريم - أوسع الله له في رحمته، وأجزل لآله وإخوانه وتلاميذه الصبر والعزاء - منذ عشر سنين ولقيته في بغداد، والقاهرة، والقدس، وفي مدائن من سورية ولبنان، وراسلته على البعد، وجالسته طويلا، وتحادثنا في العلم والأدب والسياسة والاجتماع والأخلاق وفي أمور شتى. فما عرفته إلا ذكياً عالماً أديباً فاضلا، لا يتكلم في موضوع إلا أفاض فيه إفاضة المحيط بأطرافه، المتمكن منه، المتثبت فيه، وكم قلت في حضوره وغيبته اعترافاً بالحق: (ما يجلس أحد إلى الأستاذ طه إلا استفاد من فلسفته) وأشهد أني ما حضرت مجلساً له في داره أو غير داره؛ إلا فرحت بمجلسه، وأنست به، وأصخت إلى حديثه وهو يصرف الكلام في شجونه، وينقل الحديث في معارفه الواسعة، وتجاربه الجمة.

وكنت أصغى إليه، واعجب به فيما أوافقه فيه وما أخالفه. وندر أن خالفته، وما اذكر أني

<<  <  ج:
ص:  >  >>