غير مجازف كثيراً - لو قال قائل - ليست مصر وليدة الأزمان وبنت الدهر، ونسلية الأحقاب، بل هي أم الزمان ووالدة الدهر، وجدة الليالي والأيام؛ كما أن ما نرى لها اليوم من الحضارة الزاهرة، والثقافة الباهرة، ليس بالأمر الحديث، ولا الشيء المستطرف؛ وتقدمها في العلوم والصنائع والمعارف والفنون يكاد يتصل تاريخه دورة الأفلاك، ونشأة الكون.
ولكن لا شيء من هذا أريد، ولا إياه أعني بالبيان؛ وإنما أريد بهذه الكلمة التمهيدية أن أقول: إن الفقه الإسلامي وأحكام الشريعة الإسلامية قد تحورت عن وضعها القديم ونشأتها الأولى فأصبحت (ولاسيما في القرون المتوسطة) كعقد الجمان المتلألئ، ولكن قد طمرته الأتربة وغمرته الأقذاء والأقذار حتى حجبت جماله، ولم يستبن منه سوى بصيص من اللمعان ينبئ العارف عن كنز دفين، وجوهر ثمين؛ وما كانت صحاح أحكام هذه الشريعة المقدسة توجد إلا عند رجالات من فرق المسلمين أو عند بعض طوائف منهم، ولكن لا صوت لهم ولا صيت، ولا تعرفهم أمم العالم من شرق أو غرب، وإنما كان مراجع الإسلام الذين تؤخذ منهم الأحكام هم أولئك الخشب المسندة والهياكل المفخمة التي لها بزتها الخاصة وشاراتها المعينة، الذين تنصبهم السلطات الزمنية لسياستهم حسب تلك الظروف بأسماء مصطلحة كما يقال (شيخ الإسلام) و (أمين الفتوى) و (مفتي الحنفية) و (مفتي الشافعية) وهكذا وهلم جرا إلى ما شاء الله.
وكانت الشريعة الإسلامية تضج إلى الله وإلى العلماء الأصحاء في تطهيرها من تلك الأوضار وفكها من تلك القيود والأغلال.
وبقى الحال على هذه الكوارث لا يزداد الأمر على تمادي الأيام ومرور القرون إلاَّ شدة