أحب أن أقرر أولاً أن الأمة العربية مهما تكن شتى في نوازعها السياسية، هي أمة متماسكة ذات وحدة أو كيان واحد في ثقافتها وفي تفكيرها.
وقد اختلفت على هذه الأمة أدوار من الزمن، كما اختلفت فيها أطوار من التاريخ، وكانت تجتمع كلما حز بها أمر من الأمور عند هذه الوحدة الفكرية في قوالب شتى، فالدين كان ولا يزال واحداً، واللغة كانت ولا تزال لغة واحدة، والخوالج النفسية العامة واحدة، والأدب في مقاييسه ونوازعه كان واحداً؛ ولو عدنا رَجْعَنا إلى التاريخ وقلبنا صفحاته، لوجدنا أن الأقطار العربية كانت تجتمع عند الاحتفال بالشاعر النابه والأديب مهما يكن موطنه ومهما تكن نزعته؛ وقد كان الشعر أو الأدب يطوفان في أرجائها يحملان أسم الشاعر أو الأديب طواف الفكرة الدينية أو المذاهب الفقهية، أو النحل الشتى من بلد إلى آخر، أو من قطر إلى قطر.
وبينا كانت هذه الأقطار تسودها النزعات السياسية المتباينة كانت تفسح صدورها للآراء الدينية والمذاهب الكلامية، والاستنباطاتِ التشريعية، تتسرب إليها عن طريق السفارات العلمية بارتحالِ العلماء في مختلف العصور.
وفي بغداد، وفي دمشق، ثم في القاهرة، وبين هذه العواصم التاريخية العريقة في تاريخنا الواحد وماضينا أمثلةٌ صادقة تسجَّل هذا الاتحادَ الثقافي أو هذه الرابطة العلمية، وإن تكن في غير ما نألفه الآن من وسائل يسَّرتها عواملُ الرقي، وسننُ التطور.
ولقد كانت رحلات الفقهاء، وجماعات الأدباء، ورجالات التاريخ من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب تُوثِّق من عُرَى هذه الروابط فاجتمع للعرب من هذا تراث واحد يمثل ذلك الاتجاه الفكري، وإن تكن قد اختلفت طرقه إلى النتائج، وتباينت وسائله فيها؛ ومذاهب الفقه، والنحل المبسوطة في المدوَّنات والمظان التي تسربت إلى المغرب الأقصى والأندلس في أيام ازدهارها ومن هذه إلى الشرق - لونٌ من ألوان هذا الاتجاه كما كان من قبل ذلك للأدب سفاراته في طواف الشعراء والكتاب من دولة إلى دولة، ومن إقليم إلى آخر، ولم