تستطع الأحداث السياسية أن توهن من هذه الروابط أو تفلَّ منها، وإن استطاعت بعضَ الاستطاعة أن تعوق وسائلها، وتقف تقدمها؛ على أني لا أزعم أن أثر هذه الأحداث لم يكن قوياً، ولكني أجيز لنفسي أن أقول إن هذه الرابطة لم تضعف بالرغم من هذه الحوائل، بل صمدت لها حتى اجتاحها الزمن، وانطلقت الأقطار العربية من عقالها فعادت إلى طريقها الأولى ماضية فيها تساير أطوار التاريخ رفعة وضعة، سنة الله في الكائنات جميعها.
ولمصر في نهضتها العلمية والأدبية الآن يد لا تُجحد على الشرق العربي؛ ففي صحافتها روح قوية توحي بهذه الرابطة التي لم تنهزم أمام أحداث الزمن، وفي نتاج بنيها النابهين، وعلمائها ومعاهدها وما تخرجه المطابع من مختلف الكتب والمؤلفات، وما يظفر به القراء في الأقطار العربية من ثمرات هذه الجهود المشكورة - ما يُحِلَّ مصر الكريمة محلَّ الزعامة المختارة المصطفاة؛ والشرق العربي أحوج ما يكون اليوم إلى توثيق الروابط بمختلف ألوانها وأشكالها منه في آونة أخرى؛ فقد تدافعت هجمات الأحداث عليه من كل جانب، وما أشده حين يكون كتلة واحدة على دفعها، وما أهونه عليها حين تتسع شقة البين في روحه وفي تفكيره بين بعضه وبعضه الآخر؛ وأقول في كثير من الاطمئنان إن دعامة هذه الجبهة الشرقية القوية لا تقوم إلا على وحدة في الثقافة ترتكز على رابطة متينة بين الأقطار العربية وبين مصر الزعيمة.
وبعد، فلست أقترح رأياً فطيرا لا يدعمه البحث أو الأخذ والرد بين الأدباء والقامة على هذه الرابطة؛ ولكني أقدم بين يدي هذه العجالة كلاماً يصح أن يكون دعوة إلى خطوات تمهيدية لمعالجة هذا الغرض المنشود، ويشجعني على القولِ أن الأستاذ الزيات في زيارتي الأخيرة له في دار (الرسالة)، قد ارتاح إلى ما بسطته من رغبة في توثيق هذه العُرَى الثقافية، وتعهد أن تقوم الرسالة بالسفارة الأدبية بين أشياع هذه الرابطة.
وإيماني ازداد رسوخا بنجاح هذه الفكرة أو هذه الدعوة، حين تحدثت بها إلى أكثر من أخ من إخواننا هنا في مصر، وهناك في سوريا وفي فلسطين؛ وأعتقد أن الحاجة ماسة إلى زورات علمية يقوم بها شباب مثقفون مؤمنون بفكرة هذه الرابطة الثقافية بين الآونة والأخرى، لا يكون الغرض منها متعة النفس فحسب، بل يكون مع هذا اتصال وثيق بين البيئات العلمية والأدبية هنا وهنالك بإعداد بحوث تبسط فيها الأحاديث في الشؤون