في الساعة السابعة من مساء يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من شهر يولية، لفظ البحر على ساحل (جليم) بالإسكندرية جثة كانت في رونق العمر. وإن بدا على محاسرها مسحةٌ من شفوف الهم وشحوب الألم. لم يكد يلقيها الموج الصاخب المتعاقب بالرمل المستوي المنضوح حتى أخذتها عيون الحرس الساحلي، فظنوها لأول وهلة ضحية من ضحايا الحرب الإنجليزية الإيطالية في هذا البحر المسجور العذاب والموت؛ ولكنهم علموا من بذلة الغرق ومعطفه وسلامة بدنه أنه مدني سقط في البحر أو ألقي فيه. فلما فتشه رجال الشرطة ليكشفوا عن هويته عثروا في جيب معطفه على كتاب منه إلى رئيس النيابة يقول فيه:
(إنه قتل نفسه بالغرق يأساً من الدنيا وزهادة في العيش، ويوصي بأن يحرق جسده ويشرَّح رأسه)
إذن هو رجل من رجال الفكر والرأي، جعل للحياة مثلاً لم يحققه فهو يجتويها، ورأى في العقيدة رأياً لم يرقه فهو لا يرتضيها، واعتقد أن في مخه عبقرية فهو يرجو أن يظهر بالتشريح خافيها.
فهل تدري من هو؟
هو الدكتور (إسماعيل أحمد أدهم) عضو أكاديمية العلوم الروسية، ووكيل المعهد الروسي للدراسات الإسلامية، كما كان يخبر عن نفسه؛ وهو صاحب المقالات العلمية والنقدية في الرسالة والمقتطف، ومنشط الحركة الأدبية في الإسكندرية وجمعية الثقافة. نَجَله أبوان مختلفان: تركيٌّ وروسية، ثم غُذي في يفاعته بثقافة البحر الأسود، فتأثر بنفسية الترك الجمهورية، وعقلية الروس الشيوعية. وتزوج أبوه مرة أخرى من مصرية فعاش معه في الإسكندرية حيناً من الدهر تعلم فيه العربية. ثم ترك له بعد موته بيتاً صغيراً كان يعيش على أجرته هو وأخته عيش الكفاف الضيَّق. واعتراه داء السل فكان يراوغه بالسكنى في جفاف (أبو قير)، ولكنه كان مضطراً إلى أن يشق طريقه في زحمة الحياة بسن القلم: فكتب وألف وحاضر وناظر، حتى كان له في كل كتاب رأي، وعلى كل مسألة اعتراض، ومع كل كاتب موقف. وأعانه على هذا الجهد العظيم قريحةٌ طيعة وبصيرة ناقدة وعزيمة نافذة وطبع عمول؛ ومع ذلك ظل في عزلة عن القلوب المؤاسية أو المشجعة من جمهرة القراء وقادة الأدب، لأن نشأته اللادينية، ونزعته العلمية، وطبعه الجرىء الحر، وأسلوبه الجاف