كانت الدعاية من اعظم العوامل التي عاونت على ظفر الحلفاء في الحرب الكبرى؛ وللدعاية في عصرنا أعظم شأن في تكوين الرأي العام. وفي توجيهه إلى النواحي والغايات التي يراد توجيهه إليها، ولا يخفى ما للرأي العام اليوم من القوة والنفوذ حيثما تتاح له فرص الظهور والإعراب؛ ففي الأمم الديمقراطية التي مازالت الحريات العامة فيها قائمة مكفولة يتمتع الرأي العام بكل قوته ونفوذه، ويحسب حسابه، ويحدث أثره في توجيه الحوادث والشؤون؛ وحتى في الأمم التي تسودها النظم الطاغية، وتسحق الحريات العامة، ويسلب الرأي العام والخاص كل حرية في القول والإعراب، تتبوأ الدعاية أهميتها كوسيلة قوية لتكوين رأي الكافة، ومحاولة التأثير على الخاصة والمستنيرين، وإخفاء ما يراد إخفاؤه من عيوب النظم الطاغية والإشادة بما تدعيه من الفضائل والمزايا وتحقيق الإصلاح والخير العام؛ وفي سبيل هذه الغاية تعتمد النظم الطاغية على هيئات قوية محكمة للدعاية الشاملة تسيطر على جميع وسائل الدعوة كالصحافة والأدب والراديو والتمثيل والسينما وغيرها مما تلمس أثره في تكوين الرأي العام وتوجيهه وتثقيفه
وتبدو هذه الهيئات المحدثة للدعاية كأنها بدعة في النظم الجديدة، وكأنها ابتكار لم يسبق مثوله في غيرها، وقد بلغت في بعض الدول مرتبة الوزارة الخاصة، وأضحت من دعامات الحكم الجديد التي يحسب حسابها في حشد الرأي العام وفي توجيه حيثما شاءت السياسة العليا. بيد أنا سنرى في هذا الفصل أن تنظيم الدعاية الرسمية على هذا النحو ليس ابتكاراً جديداً، ولم تنفرد به تلك الدول والنظم التي تفاخر به وتعتمد عليه، وأنه قد عرف في الدول الإسلامية قبل ألف عام، واتخذ كما يتخذ اليوم أداة قوية لغزو الأذهان وتوجيه رأي الكافة، وكان دعامة من دعائم الحكم والخلافة
أجل عرفت الدولة الإسلامية قيمة الدعاية ولجأت في مختلف الظروف والحوادث لتحقيق غايات الدين والسياسة: بيد أنها لم تدمج في هيئة خاصة، ولم تنظم أصولها ووسائلها بصورة رسمية إلا في الدولة الفاطمية. ففي ظل هذه الدولة القوية المدهشة نجد الدعوة تتخذ وسيلة من أنفذ الوسائل لحشد الأولياء والكافة وتوضع لها نظم هي آية الطرافة والبراعة،