قال دعبل: مضى علي ستون عاماً ما تصرم منها يوم إلا وقلت فيه شعراً. وقد يكون مغالياً في هذا ولكن الشيء الذي ليس فيه مغالاة أنه نظم كثيراً أضعاف ما خلص إلينا، فقد ضاع الكثير من شعره؛ وليس هذا الضياع بالمستغرب، وإنما المستغرب أن يصل إلينا شيء من شعره فقد كان الرجل طلعة، ومرعباً بهجائه. وحسبك أن تعلم أن من جملة من أقذع في هجومهم خمسة من الخلفاء، وفئة صالحة من الأمراء والوزراء والقواد، ثم كان إلى جانب ذلك شيعياً. أفلا ترى أن الزمن كان متسامحاً إذ أبقى على شيء من شعره؛ على أن هذه البقية كافية للحكم على شعره، وتقديره من حيث الجودة، ولكنها لا تكفي أبداً لدراسته من الناحية النفسية، فليس يمكننا أن نعرف معرفة صحيحة أسباب تمرده، ولا أن نجزم في الحكم على بواعث ثورته؛ وقصارى جهدنا أن نفترض وأن نتخذ من الكلمة الصغيرة ترد في سيرته مفتاحاً للغوص على هذه النفس العجيبة. . .
كان البحتري يتعصب لشعره، ويفضله على مسلم بن الوليد، ويقول في أسباب هذا التفضيل:(إن شعره أدخل في كلام العرب من شعر مسلم. . .) أما إنه أدخل في كلام العرب من شعر مسلم فمما لا يمتري فيه اثنان، بل لعله أدخل في كلام العرب من شعر كل الشعراء الذين تقدموه في الدور الأول للدولة العباسية؛ وأما أنه خير من مسلم فالبقية الباقية لا تجيز لنا هذه المقارنة. هو متين السبك، شديد أسر التراكيب، فحل الأسلوب، حتى لو دعته الضرورة أن يقول شعراً في أقل الأمور التي لا تدعو إلى الاحتفال بالشعر ولفظه، قال:
أسر المؤذن صالحٌ وضيوفه ... أسر الكمى هفا خلال الماقط
بعثوا إليه بنيه ثم بناتهم ... ما بين ناتفةٍ وآخر سامط
يتنازعون كأنهم قد أوثقوا ... خاقان أو هزموا كتائب ناعط
وما هذا المؤذن الذي أسره صالح وضيوفه، كأنهم أسروا الخاقان وهزموا الكتائب؟ ديك دجاج لا أكثر ولا أقل. أتينا بهذه الأبيات، لندلل على أن دعبل لا يتنزل عن فحولة اللفظ