لو قيل لي أي الأخلاق الفاضلة كان له الفضل في ظهور الإسلام وانتشاره لما ترددت في أن أقول الشجاعة. فالشجاعة الأدبية والشجاعة الجسدية هما الدعامتان اللتان قام عليها الإسلام، وبفصلهما انبثق نوره في سائر الأرجاء؛ أو قل إن الشجاعة الأدبية والشجاعة الجسدية نوع واحد مرجعه إلى جرأة القلب، والاعتماد على النفس، وعدم الخوف من أحد؛ فإذا وجد صاحبها حقاً مهيضاً نصره، وإذا وجد باطلاً عرماً خذله بحد اللسان أو بشبا السنان
ولقد كان صاحب الدعوة الإسلامية أشجع الناس في قول الحق والجهر بما يعتقد، وبحسبك أن قومه كانوا يقدسون الأصنام ويرونها الحق الذي لا ريب فيه، والصدق الذي لا تحوم حوله شبهة؛ وكان يعلم أنهم يتعرضون لشبا السيوف وملاقاة الحتوف محاماة عن أصنامهم وذباً عنهم، فلم يمنعه ذلك من أن يجهر بالحق ويعيب آلهتهم، ويسفه أحلامهم، ويصبح في وجوههم:(إن الذين تدعون من دون اله لن يختلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب).
(ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها؟). رباه الله على الشجاعة الأدبية والجهر بما يعتقد فقال له:(يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر). وقال:(فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين أنا كفيناك المستهزئين). وقال:(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس). وأبان له أن كتمان الحق موجب للعنة الله والناس (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)؛ فعلم أن في العالم حقاً وباطلاً وخيراً وشراً، وأنه يجب على الأنبياء والمصلحين أن يكونوا نصراء الحق والخير وأعداء الباطل والشر، وأن عليه أن يزكى هذه العداوة ويؤجج نارها حتى يديل الله الحق والخير من الباطل والشر. وكما كان صاحب الدعوة صلوات الله عليه المثل الأعلى في الشجاعة الأدبية، فقد كان كذلك في شجاعته الحربية أعظم مثل وأروعه، يدل على ذلك قول علي: (إنا كنا إذا حمى البأس وأحمرت