كان العصر الذي نشأ فيه أبو إسحاق الصابي عصراً زاخراً بالكتاب النابغين والشعراء المجيدين ممن خلفوا للغة ثروة ثمينة خالدة، وتركوا في الأدب روحاً فريدة صافية؛ إذ لم يعدْ الخيال وقفاً على الشعر، بل تعداه إلى الكتابة والنثر، فضرب الكتاب به في ضروب متنوعة لم تعهدها العربية، وساروا به في دروب متشعبة لم يألفها من قبلهم، وإن أعزم بها وسار على نمطها من جاء بعدهم. ولعلَّ من أعظم البواعث على رقي النثر والشعر في هذا العصر ذلك الاضطراب الذي انتظم جميع شئون الدولة؛ فهناك اضطراب ديني يدفع إلى الجدل والمنافحة، والنقد والمدافعة واضطراب سياسي، يسوق إلى المؤازرة والمعاضدة، والمنافسة والمعارضة، فكان ذلك الجو المضطرب جو صفاء للغة وآدابها، وهذا العصر المكهرب عصر ازدهار للنثر والشعر على السواء، فاتسع أمام هؤلاء وهؤلاء أفق الابتكار، ولمع مجال الابتداع، وأوحى إليهم ذلك المعترك المنطق الخلاب، والخيال الصافي والبيان الرائع والنسيج الساحر، فجاء نتاجهم عصارة أذهانهم، وذوب أفكارهم، وصفوة قرائحهم؛ تعمقاً في إبراز فكَرهم واضحة جلية، وتعملاً في تنسيق آرائهم ناصعة صفية؛ لتبدو للقارئ مصقولة مستساغة يرضاها عقله البريء؛ إذ لا يعتورها وهن ولا التواء، ولا يكتنفها غموض أو إبهام، وكثيراً ما كانت تدفعهم أحداث السياسة ودفع ما قد ينتظرهم من كوارث، وخوف ما ربما استقبلهم من حوادث، فيما لو تغير مجرى الأمور إلى الكتابة اللولبية، لا تكاد تتبين مرماها، ولا تعرف مأتاها أو مؤداها، إمعاناً في الإبهام، وإيغالاً في الإبهام. وناهيك بعصر نامت فيه السكينة وصحت الفتنة، وأشرقت الأسارير، وأظلمت السرائر؛ فملوكه متنافسون، وأمراؤه متنابزون، وقواده متحفزون، لا يخشى أحد هؤلاء قربى، ولا يأبه لزلفى، كلما جمعتهم جامعة فرقتهم شيعاً مآربُ، وإذا ألف بينهم حلف نقضته دوافع، وأولئك جميعاً يريدون الأدب للسياسة فرساً ذلولا يركضون متنه وسيفاً مسلولاً يشهرونه على ضغنهم، والويل أي ويل لمن تخلف عن الطاعة أو نكص دون تنفيذ الإرادة، إنه إذن لمن المنبوذين المبغضين، ينتظره الحيف ويترصد له الظلم كل مرصد. ومن هنا كان