البطش ببعض الكتاب والشعراء سنة مسنونة، فمن أمن اليوم فهو قليل الأمن والدعة غداً، ومن سعد فترات ترقبه النحس سنوات
ومن كتاب ذلك العصر الذي أسلفت وصفه الرئيس ابن العميد، والوزير ابن عباد، والكاتب أبو بكر الخوارزمي؛ ومن شعرائه أبو فراس الحمداني، وأبو الطيب المتنبي، والشريف الرضي. ولقد كان الصابئ مع معاصرته لأولئك الأفذاذ الذين قلما يجود الدهر بأمثالهم، أو يسمح بمن يجري على غرارهم جملة - مرموق الأثر، موموق الخبر؛ يجري أسمه على الألسنة في مراتع اللهو والأنس، أو مهامه اليأس والبؤس، وتتناقل أنباءه الأندية إن أصابته غبطة ونعماء، أو مسته مخمصة وضراء، وتعمر به المحافل والمجالس متى صفرت منه المعاقل والمحابس، وهكذا دواليك يظهره تاريخه حركة دائبة، لا تقفها نعمى تركن بها الدعة، ولا تفدحها بؤسي، فتستسلم للشدة، فهو كادح في الحالين، وأداة عاملة لا يعطل محركاتها ميسرة أو معسرة. ولكأني به يشحذه طول الضراب، ويستثير شعوره أمل الثواب، ويستحيي وجدانه توقع العقاب، فيأتي بما يلذ السامع سمعه، ويعجب القارئ وقعه، وسيبرز هذا الوصف واضحاً جلياً ما سأقدمه بين يدي الكتاب من كتاباته، وما أعرضه على الشعراء من فرائد أبياته، فسنرى أن أروع نثره وأقواه ما جاء في الشكوى؛ وأرق شعره وأرقاه ما جرى في العتبى، ولقد عرف له فضله حامدوه وحاسدوه، ونفس عليه أدبه شاكروه وكافروه، وحسبه ذلك فخراً
نعم إن الصابي كان في الشكوى والاستماح، والنصح والاستنصاح قوي الصوغ والنسج رائع التصوير والخيال بارع المنطق والبرهان، لا تعوزه الحجة، ولا تنأى دون غرضه المحجة. وإذا كان (خير الأدب ما انبعث عن عاطفة صحيحة لا مريضة) فشكوى الاعتقال وذم الحبس يصدران عن عاطفة صحيحة قوية لا سقيمة ضعيفة؛ ودعك من حبس الجسم والحد من حريته، فذلك أهون خطبه وأيسر أمره، وإنما مر الشكاة تصدر عن سجين العقل معتقل الفكر مرهف الحس، فذلك إذ ينثر أو يشعر يعبر تعبيراً قوياً جياشاً يستثير به العواطف الكامنة، ويستجيش المشاعر الهامدة، ليبعث فيها عواطف ثائرة للعطف عليه ولتستحيل المشاعر الخامدة مشاعر مشتعلة للبر به، ومن يطالب مثل ذلك بالصبر والسلوى والسكون إلى البلوى وعدم الشكوى، أو يعتبر إعلان ألمه خوراً في أدبه، أو استظهار