الناس إلى معرفته ضعفاً في خلقه، متطلب في النار جذوة نار، أو هو كما قيل:
ومن البلية أن يسام أخو الأسى ... رعىَ التجلد، وهو غير جماد
ولو أن أبا أسحاق كان في سياسته كما كان في ديانته، يكتب عن إيمان، ويصدر عن عقيدة (مهما كانت حقيقتهما) لنجا بعض النجو من كثير مما أمضه، ولكنه كما يروي الثعالبي كان يكتب كما يؤمر، وكان كالمركب السهل يوجهه راكبه حينما شاء، فهو يتحدث بما يمليه عليه ربه، ويعبر عن أفكار مولاه، ومع هذا فإنه يأتي بالعجيب، فكيف به إذ يكتب عن عاطفة أو يشعر عن حافزة؟ إنه ليجمع بين اللفظ الرشيق والمعنى العميق، ومن ذلك الذي يبلغ به فنه الجمع بين لغة الألفاظ ولغة العواطف إلا الكاتب المالك عنان قلمه؟ (لأن الألفاظ (كما يقول الأستاذ أحمد أمين) لم توضع لنقل العواطف، وإنما وضعت لنقل المعاني، والألفاظ أعجز ما تكون عن نقل عاطفة الأديب إلى القارئ، فكيف أنقل إعجابي بالطبيعة، أو أنقل حباً ملأ جوانحي أو غضباً استفزني، أو رحمة ملكت مشاعري! لم توضع الألفاظ لشيء من ذلك، وإنما وضعت لنقل مقدمات ونتائج منطقية، ولكن ما حيلتنا وقد خلقنا عاجزين لم نمنح لغة العواطف، ولابد لنا من التعبير عنها ونقلها إلى قارئنا وسامعنا، لذلك استخدمنا لغة العقل مرغمين، وأردنا أن نكمل هذا العجز بضروب من الفن كموسيقى الشعر من وزن وقافية، وكالسجع وكل ضروب البديع، وليس القصد منها إلا أن نكمل نقص الألفاظ في أداء العواطف) إذا كان ذلك الرأي صحيحاً ولا أخاله غير ذلك، فقد بلغ الصابي أفقاً لم يبلغه كاتب سواه
ويجدر بنا إذ نتحدث عن نثر الصابي أن نقسمه أقساماً ثلاثة: النثر الديواني، والاخواني، والنثر العام غير المقيد بأحد هذين الوصفين
فأما كتابته الديوانية فكان يصورها باللون الذي يريده عليه سيده ويرسمها بالريشة التي يهبها له، فتارة تبرز سافرة واضحة هينة لينة، ناصعة الكلمات رقيقة الفقرات رفيعة اللمزات والغمزات، تبعث في نفس قارئها الرضا إن كان غاضباً، وتوليه العتبى إن كان عاتباً، والسكون إن كان عاصفاً، وربما لمحت في ثناياها الحكمة العابرة، والأمثال السائرة. فمن ذلك قوله يؤلف بين عز الدولة وابن عمه عضد الدولة على لسان أولهما:
(والله العالم أني مع ما عودنيه الله من الإظهار، وأوجدنيه من الاستظهار، ومنحنيه من