عندكم يا سادتي المال، ولكم الجاه، وكان فيكم الحكم، فلم تأبون أن يكون معكم المجد أيضاً؟ رفعناكم واتضعنا، وحكّمناكم وأطعنا، ثم صغنا مجداً ألقاباً لعظمتكم، وحشدنا أبناءنا جنداً لسطوتكم، وجعلنا أموالنا مدداً لثروتكم، وقلنا أفراد تقويهم روح الجماعة، ورموز تلبسهم فكرة الوطن، وألوية ترفعهم سواعد الأمة، فإذا ضعفكم ينوء بقوة الحكومة، وإسفافكم يهبط بسمو المنصب، وارتفاعكم كارتفاع الأسهم النارية: فرقعة ولألا، ثم سقوط وفناء!
يزعم أرباب الشعر وأصحاب الخيال أن الإنسان ملكٌ مُرنَّق الجناح هبط من سمائه ولم يصعد، فهو لا ينفك ما عاش نزوعاً إلى موطنه! وهم يعنون بذلك أن الإنسان بالجزء الإلهي الذي فيه مسوق إلى الكمال مشوق إلى الرفعة، فهو يفرغ من مطالب الجسد ليخلص إلى رغائب الروح، ويبتدئ بالأثرة في ضيق الأنانية لينتهي إلى إيثار في سعة الغيرية، وينشأ على هوى الطبيعة معنى جزئياً ليعود بحكم التطور فكرة إنسانية! فما الذي قتل فيكم هذا النزوع السماوي، وصرف عنكم هذا الطموح المقدس، فقيدتكم جاذبية المادة، وعقلتكم شهوة الغرض، وأبيتم على نداء البطولة واسحثاث الرجولة إلا أن تكونوا ناساً كأقل الناس، لكم كروش لا تكتفي، ونفوس لا تشتفي، وأطماع لا تحد
ربما علل النفسيون هذا الميل الشاذ في بعض كبراء اليوم، بأنهم من فقد الخلق الصالح في قصور ذاتي معنوي لا ينفك؛ فهم يرتفعون قذفاً في السماء، ويسقطون جذباً إلى الأرض، ولا يشعرون إلا كما يشعر الحجر بأن القاذف المجهول رمى بهم أماني فوق، وسحق بهم أناسّ تحت!!
كذلك من يتعلم ولا يتربى، ويتربى ولا يتدين، ويتحرك ولا يقصد، ويتصرف ولا يريد! أولئك يحُدون دنياهم بالأفق، ويختمون حياتهم بالموت، ويزنون سعادتهم بالمادة، ويضخمون على أقوات الشعب ضخامة الفيلة المروضة ليكونوا مركباً للملوك، وفرجة للناس، وغذاء للأرض!! وهؤلاء أنماط من الخلق كانوا صُبابة العهد القديم رسبت فيها أكداره وشوائبه، ثم كانوا بحكم تخلفهم جسراً محطم الأركان مهدَّم القواعد، لابد للجيل الجديد من اجتيازه لينتقل من عالم إلى عالم، ويخرج من عصر إلى عصر، فهو يحملنا على اضطراب وخلل، ونحن نعبره على احتراس ومهل، وفي هذا الاحتراس وذلك الاضطراب سر ما ترى في خُطانا من قِصَر وفي نهضتنا من بطء