ما علة هذه الهزيمة في مصر، وما سبب هذا الخلاف في فلسطين، وما باعث هذه الثورة في العراق؟ لا تلتمس دواعي ذلك كله في كيد الدخيل وخداع العدو، فإن الغاصب يستطيع إن شاء أن يسلبك مالك بالحيلة، أو استقلالك بالغيلة، ولكنه لا يستطيع أن يفتنك عن شرفك وخلقك وضميرك وأنت رجل! إنما يدفع هذه الفيلة الأهلية الغُلف بخراطيمها الماحقة، وأخفافها الساحقة، وإهابها الصفيق، فتسوّى أمامه الأرض، وتمهد له الطريق، وتحمل له فوق ظهورها العرش!
إن مشكلة الدستور، وقضية (نزاهة الحكم) برهانان صارخان على أننا أُُتينا يوم أُُتينا من ناحية الخلق! وتلك ناحية لا يحصنها وا أسفاه شهادة تُعطى، وخطبة تُلقى، ومقالة تُكتب؛ إنما يحصنها الله بدينه، والمعلم بتهذيبه، والأب بسيرته، والزمن بطوله. وهل في سيادتنا وكبرائنا الذين أضلونا السبيل من لم يشدُ شيئاً من العلم في المدارس، ويدرك ذرواً من الأخلاق في الكتب؟ ولكن علم هؤلاء بالحلال والحرام كعلم القاتل واللص، لا يعصم النفس، ولا يوقظ الضمير، ولا ينفي الجهل، ولا يمس الحياة العملية! فنحن كما ترى مقضيّ على نهضتنا بالتثاقل، وعلى أمتنا بالتخاذل، حتى يصبح الدين قائماً، والضمير حاكماً، والعمل عقيدة، والإحسان طبيعة، والواجب مرعياً، والتبعة مفروضة؛ وحينئذ ينتظم وضعنا الشاذ، ويتسق وجودنا النافر، وتنفق من السُّلال مطايا الرجعية الذميمة!
قل لأولئك الذين أحرقوا روما وما زالوا يعزفون أناشيد الجحيم على أوتار نيرون! ماذا جنى هذا الشعب الكريم حتى سفهتهم حقه في الحياة، وأضعتم نصيبه من الحرية؟ كان في يديه دستور فأين ذهب؟ وفي طريقه استقلال فأين اختفى؟ وفي تاريخه ستة عشر عاماً حامية بالجهاد، دامية بالضحايا، فأين قطوفها المشتهاة، وحصائدها المرجوة؟
تصرفتم في حقوقه تصرف السفيه في المال المتروك، واتخذتم من مرافقه وسائل للكيد الأحمق وموارد للربح الخاص، وجعلتم من وحدته أولياء لا يعدوهم الإحسان وخصماء لا تُغبهُّم الإساءة، ونسيتم أن في البلد احتلالاً يقظ الرأي، كلوء العين، يحصى عليكم الأنفاس، ويتربص بكم الدوائر!
كان يقظان وكنتم غارّين، فدلف إلينا من جهتكم، واحتج علينا بخطئكم، ثم ذبكم عن الحكم ذبَّ البعوض، وقبض بيديه العاريتين على سياسة البلاد، ووقف الأمة المنكودة بين الحيرة