إذن فالجامد والحي شيئان مختلفان أشد ما يكون الاختلاف، وليس من اليسير أن يسيغ العقل أنهما جانبان لحقيقة واحدة هي الطبيعة، وأنهما يسيران وفق قانون واحد هو قانون الطبيعة؛ ولعل أعقد المشاكل التي يصادفها المذهب الطبيعي هي هذه:
كيف أنتج الجماد عالم الأحياء وبين موات الجماد وحياة الأحياء ما رأينا من فروق؟ هنا تقدمت نظرية التطور لتأخذ بيد المذهب الطبيعي فتنجو به من هذا المأزق العسير بأن تفسر لنا كيف نشأت الحياة وكيف نشأ العقل.
أما دارون فلم يستطع ذلك، أو هو على الأصح لم يحاوله، فقد سلم بوجود الحياة تسليماً وفرضه فرضاً، ثم بدأ سيره من هذه النقطة بأن أخذ يبحث فيما يطرأ على الحياة من تغير وتحول، ومعنى ذلك أن دارون قد فرض أن الكائن الحي قد تسلسل من كائن حي قبله، وهذا من كائن حي قبله، وهكذا دواليك. فهو على ذلك لم يزد في بحثه على أن تتبع حلقات الاتصال بين أنواع الأحياء أي بين الكائنات السفلى والكائنات العليا، وإذن فدارون لم يقدم في نظريته حلاً للمشكلة الأولى: مشكلة المذهب الطبيعي، وهي، كيف نشأت الحياة من الجماد، وكيف نبت العقل مما لا عقل فيه؟
ثم جاء في أثره هربرت سبنسر وتناول بعقله الجبار نظرية دارون فأكمل نقصها وأتم مطلبها. فأقام الحجة على أن الحياة إن هي إلا ضرْب من ضروب المزيج الكيميائي بين أجزاء المادة، فإذا كنا نبغي الوصول إلى الحلقة التي تصل الحياة بالجماد، فما علينا إلا أن نلتمس علماء الكيمياء!. . . ولقد رأى سبنسر مما وصلت إليه العلوم في عهده أنه ليس بين قطع الجماد وكائنات الأحياء تلك الشقة الفسيحة التي توهمها الأولون، فالفرق كل الفرق بينهم اختلاف في درجة التعقيد والتركيب. أما العقل فضرب من ضروب الطاقة كالحرارة والكهرباء والضوء.
ولكن ما بالنا نركب رءوسنا فلا يرضينا إلا أن يقوم الدليل على أن العقل قد نشأ من الجماد نشأة تدريجية معقولة وإلا كان الأمر في أعيننا لغزاً مغلقاً؟ فلم لا تكون الحياة قد خرجت