الممارسون للآداب نثراً ونظماً في كل أمة وفي كل جيل أكثر من أن بعدوا، لأن الإفصاح عن خوالج النفس وتأثراتها بما تحس وما ترى طبعي في الإنسان، وإنما يَنْبُهُ من أولئك الممارسين للآداب القليلون ويخلد الأقل؛ يميزهم من غيرهم سداد الفكر ولطف الشعور وروعة الأسلوب، ومن أولئك يكون أعلام كل أدب، ترفعهم عبقريتهم فوق رؤوس معاصريهم وتمشي بهم على عواتق الأجيال.
غير أن للمصادفات والحظوظ والظروف دخلاً كبيراً وصغيراً في صعود الأدباء وهبوطهم، فتَعدِل أحياناً وأحياناً تجور. والأرجح أنها كانت كثيرة الجور والإجحاف في الأدب العربي، وكانت أشبه بالعدل والإنصاف في الأدب الإنجليزي، فقد صاحبت الأدب الإنجليزي ظروف طبيعية مساعدة تسمح للعبقرية الفردية أن تسلك سبيلها غير معتاقة، وأحاطت بالأدب العربي عوامل عارضة أدت إلى رفع بعض من لا يستحقون الرفعة بجوار من يستحقونها، وإلى خفض من هم أولى بالرفعة والنباهة.
فقد ترعرع الأدب العربي ونضج وقومه أميون لا يقيدون في القرطاس آثار أدبائهم وأخبارهم، وإنما يروونها رواية ويتوارثونها تواتراً جيلاً بعد جيل؛ والرواية أقل من الكتابة نصيباً من الدقة وحفظ الآثار والتمييز بين الغث والسمين والبصر بما يستحق البقاء، فكان من جراء ذلك أن ضاع شعر كثير ونثر أكثر، واندثرت أخبار أدباء لعل منهم من كان أجدر بالخلود وأجدر بإعجاب الأجيال التالية ممن خلد؛ ولم يصلنا من أخبار قرون طويلة قبل الإسلام وبعده إلا كل مبتور غير مستوثَق.
فلما صارت الرواية صناعة يطلب بها علو الذكر ودرُّ الرزق وتقريب الأمراء، كان ذلك ضغثاً على إبالة، إذ اشتد عبث الرواة بما بين أيديهم من الأدب العربي، وشوهوه بالبتر والوصل والاختراع والنحل، وحملهم تنافسهم وتكاثرهم بسعة العلم على تخليد أسماء