لعل رسالتي الأولى بلغتك فسرَّتك. وهذه رسالتي الثانية.
قلت لنفسي وأنا على الباخرة (محمد علي): قد ركبت هذا البحر بحر الروم أربع عشرة مرة فلماذا لم يوح إليَّ شيئاً؟ لماذا لم أصفه أو أصف حالي فيه بكلمة؟ إنني حين أسافر إلى الشام أو العراق أو تركيا أو إيران أكتب عنها جهد المقِل، وعلى قدر ما يواتيني البيان، وتأذن لي المشاغل. وإن لم أكتب أظلّ راغباً في الكتابة، وتبقى في نفسي معان تودّ الإعراب عن نفسها أحدث بها نفسي وأصحابي بين الحين والحين. فلماذا لم أخط حرفاً عن البحر الأبيض وأوربا؟
قالت نفسي بعد تفكير طويل: أنت رجل عصبيُّ قد ملأ نفسك التعصب لقومك العرب ولدينك الإسلام فلست تبالي بغيرهما، ولا تستلهم البيان إلا منهما
قلت: هذا حق، ولكن يحسن أن تُصورِّيه صورة أخرى؛ أحرى بك أن تقولي: إنك حينما ذهبت في بلاد الشرق وجدت قومك ولغتك وتاريخك وآثار أسلافك فتفرح أو تحزن، وتنبسط أو تنقبض، ويجول فكرك بين الماضي والحاضر فاخِراً أو خجلاً، راضياً أو ساخطاً، داعياً أو ناهياً الخ. ولكن أوربا وأهل أوربا ليس بيننا وبينهم من سبب إلا ما أصابنا منهم وإلا هذا الجلاد الدائم بيننا وبينهم
قالت: ألا تكون مرة إنسانياً تسمو على العصبيات وتخرج من هذه الدوائر الضيقة، وتنظر إلى الإنسانية في سعتها، والحقائق في شمولها، والعالم في جملته؟
قلت: قد سألت السبب لك الحق، وصدقتك الجواب؛ فأما الإنسانية والعصبية فموضوع آخر لا أريد أن أكدَّر على نفسي صفو هذا السفر الممتع في هذا الجوَّ الصاحي والبحر الساجي، بالكلام في الإنسانية والعصبية وما يتصل بهما؛ فهذا كلام إن عرف أوله لم يعرف آخره